يوسف السباعي بين مرتع
الصبا وشرخ الشباب
عندما أردت أن أكتب عن يوسف السباعي من خلال
أحد كتبه واستعرضت أسماء قصصه ورواياته توقفت عند كتاب بعنوان:
"من أبو الريش إلى جنينة ناميش"
فهذا الحي هو مرتع صباه وشاهدا على شبابه،
وها هو ذا شارع السد يحمل اسم يوسف السباعي السد سابقا، وتساءلت هل يمكن أن يكتب
انطباعاته ويومياته قصصا، ولماذا لا يكتبها مقالات فتكون أصدق في السرد عنها في
القص.
فجاءت الإجابة في مقدمة كتابه:
".. فقد تبين أن القصة أضحت فرضا واجبا
على.. وأن القاريء –سامحه الله- مقتنع تمام الاقتناع بأني لا أجيد في غير القصة..
فقد كتبت ذات مرة مقالا في الغناء فجاءني خطاب من أحد القراء يدهش فيه كيف أكتب في
الغناء وأنا قصصي.!"
ويضيف:
".. وهناك سبب آخر يزج بـ "جنينة
ناميش" في قصصي، فبينما نجد أن التجول في "جنينة ناميش" هو الدافع
للكتابة.. وأن القصة ذاتها ليست إلا برشامة أضع فيها الجولة.. نجد في أحيان أخرى
أن فكرة القصة قد تكون حاضرة.. وإني لا أكاد أجلس للكتابة لإبرازها إلى حيز الوجود
باحثا لها عن مكان وزمان أجعلها فيه وأجري حوادثها به حتى أجد "جنينة
ناميش" قد أطلت في رأسي.. وإذا بالسبل قد ضاقت بي إلا عن السد البراني،
والمنيرة، والسيدة زينب، وزين العابدين.. وإذا بي أضع القصص برغمي في هذه الأمكنة
الرابضة من قديم العهد في الذاكرة"
عندئذ أدركت أن خير تقديم للرجل يكون من خلال
بداياته ليست الأدبية ولكن البيئية، فهى بلا شك التي شكلت وجدانه أولا قبل أن تدعه
يشكل وجدان الآخرين.
في "جنينة ناميش"
بكارة يوسف السباعي تتجلى في هذه القصة،
فنجده يتحدث عن "جودة" الذي يعتبر نفسه شخصية عامة، يشترك في كل موكب،
ويساهم في كل حفل عام، وأبحث عن جودة هذا فأجده خادما في بيت الراوي الذي هو يوسف
السباعي نفسه يقول:
"كنا نقطن وقتذاك في "جنينة
ناميش" قرب سيدي الأربعين في منزل يقع على ناصيتي شارع الخليج وشارع الأربعين
المواجه لكوبري المنيرة"
ويمضي في وصف جودة وصفا دقيقا شكلا وسلوكا
حتى يصفه بأنه مصدر المتاعب لأمه –بعد أبيه طبعا- وأنها أضاعت ثلاثة أرباع عمرها
في الشكوى من جودة، والصراخ في جودة، والسب والضرب في جودة.
وجودة مكلف بتوصيله هو وأخوه إلى مدرسة
"محمد علي" الإبتدائية واحضارهما يوميا.
" وكان المفروض في جودة أن يأخذ باله
منا وأن وجوده معنا مقصود منه الاطمئنان على سلامتنا، ومنعنا من الشقاوة واللعب، ووقايتنا
من حوادث الطريق.. ولكني أجزم بأننا لو تركنا وحدنا لكنا أكثر سلامة
واطمئنانا"
ويأخذ في سرد المغامرات واللعب ذهابا وإيابا
بين مختلف أنواع العربات بالكرة الشراب التي جهزها جودة، وما ينشأ عن ذلك من
حوادث، ومشكلات، والاشتباك في المعارك:
" وكان جودة يتفنن في وسائل التسلية
التي نقطع بها الطريق إلى المدرسة"
"وفي عودتنا من المدرسة، كان أهم مورد
لتسليتنا هو الشيخ "كحكو" فكنا نبدأ في زفة بمظاهرة يقودها جودة ويشترك
فيها كل من هب ودب من صبية مدرسة محمد علي، ووادي النيل، ومدرسة الكمال، أي الجيل
الجديد في حي السيدة زينب.
كنا نلتقي بالشيخ "كحكو" خارجا من
إحدى حواري شارع سلامة فلا نكاد نبصره حتى يبدأ جودة بالهتاف:
"شد العمة شد" فنجيب على هتافه "تحت
العمة قرد".
وهكذا ساهم جودة في تربية يوسف السباعي بجره
خارج جدران بيته إلى الشارع الرحب وأطلعه على خصائص المكان من خلال ناسه بعاداتهم
ولغتهم الخاصة.
وثمة سبب آخر أثر في وجدان يوسف السباعي
الطفل ألا وهو الحب، فيصرح في حديث خاص:
"عشت الحب من بدري، كنا نسكن في
"جنينة ناميش" وعمري 7:6 سنين، ملاك، العيون أزرق، الشعر أصفر – وهذا
وصف بطلات قصصه- والبلكونة في الحارة وهي في البلكونة تتفرج علينا ونحن نلعب الكره
الشراب، وكنت أبص لها وألعب بكل قدرتي وفني، كان يهيء لي أني سوف ألفت نظرها لو
لعبت بتفان أو تأنقت في اللبس كلما خرجت للفسحة.
العجب أن الزمن يمر، وتكبر البنت وتصبح زوجة
لأحد أصدقائي، أفكرها بشقاوتي ولعبي في الحارة، ولا هي فاكرة"
على هذا النحو تمضي طفولة يوسف السباعي:
شقاوة، مغامرات ممتزجة بالعاطفة شكلت فنه وألبسته رداء محبوكا من أردية محاسيب
الست الطاهرة.
ومن هنا تعددت شخصية يوسف السباعي (10 يونيه
1917-18 فبراير 1978م) كما عرفتها من أفواه الذين عاصروه واحتكوا به ويتمتعون بقدر
من الانصاف، كلهم أجمعوا على أنه نموذج فريد من البشر فهو خليط من الصفات الحسنة
مثل الكرم والشهامة وتقديم العون، وهو صاحب اليد الطولى حتى لأعدائه، شجعني هذا
على القراءة عن هذا الرجل الفريد فإذا بي أقف على شخصية متعددة النشاط، الكفاءة
والمقدرة ، كل جانب من تلك الشخصية يصلح تقديمه كنموذج رائع فريد من نوعه، وهذه
صفات المجاورين للسيدة زينب"الست الطاهرة" صاحبة الديوان، أم هاشم، أم
العواجز" وكلها أسماء تدل على اليد العليا.
وليست السكنى غي المكان وحدها دليل الخبرات
به، ولكن المعايشة والاندماج على هذا النحو الذي رأيناه ولمسناه في القصة السابقة،
وهذا أيضا ما أتاح له التحدث عن الأحياء المجاورة لميدان السيدة زينب وينسب لكل حي
منها قصة ملائمة لطبيعة المكان حتى أنه جعل عناوين القصص بأسماء الأماكن وهو
يجوبها من شرقها لغربها، ومن شمالها لجنوبها، فمشينا من خلف المقام في شارع السد
حتى البغالة والطيبي وزينهم، ومن أمامها حتى الناصرية، ومن شمالها حتى أبو الريش
وجنينة ناميش، ويمينها في شارع الخليج المصري ودرب الجماميز، وكلها مناطق عريقة من
أساسيات ميدان "السيدة زينب" حتى ليظن "يوسف السباعي" نفسه
أنها أساس الشعب المصري.. في القصة المقدمة أيضا:
" ويبدو لي أن هذه المنطقة من القاهرة..
أعني منطقة السيدة زينب، وما حولها من سيدي زينهم.. إلى المواردي إلى الناصرية إلي
درب الجماميز كانت موطنا لجميع المصريين فما قابلت انسانا إلا ويعرف حوض "سقي
الحمير" في ميدان المدبح، ويذكر جيدا "الأبوة" الموصلة من حارة
السيدة إلى "جنينة ناميش" وينبئني أني أذكره بأيام صباه.. أيام مدرسة
محمد علي، وشارع سلامة، وسيدي الحبيبي وسيدي الطيبي"
وفي الكتاب الذي نحن بصدد التحدث عنه ندهش
لكمية المخزون من التجارب حتى أنك لتظن أن القدر هو الذي يسوق له الأحداث لا هو
الذي يبحث عنها، فهو يتتبع الطفل في بطن أمه حتى يولد، وينمو ويزحف، ويعتدل على
قدمين ويكبر ويذهب إلى المدرسة ويموت، وفي كل مرحلة من هذه المراحل يذكر أفعال
الصبي فيها وعلاقته بأمه وبالزمن.. كاميرا تلتقط كل لحظة دون إغفال ولا كلل
ونستقبلها نحن القراء بلا ملل أو سأم بل نشعر بأنفسنا مشاركين في الأحداث فنلهث
أحيانا، ونضحك أحيانا، ونسرع في القراءة أحيانا تبعا للأحداث؛ وخير دليل على ذلك
قصته.
في المواردي
وقد خصصها للكلام عن "ششتاوي"
وأمه، فهو يعرفنا في البداية أن ششتاوي ليس لقبه وأن أمه المسئولة عن هذا الاسم
لأنها ولدته في طوبة والسماء "تشتي"
"فإذا تجاوزنا الاسم إلى صاحبه وتبعناه لنرقبه
في أول مرحلة من مراحل حياته، وجدناه قد ربط من وسطه بحبل شد إلى أحد القوائم
الحديدية لكوبري المنيرة القائم على سكة حديد حلوان والموصل بين حي المنيرة من
ناحية الماوردي وجنينة ناميش من الناحية الأخرى"
ثم يصفه في هذا الوضع ويشبهه بكلب حائر أرهقه
القيد فهو يطوف حول العمود على قوائمه الأربع مبتعدا عنه بأقصى ما يسمح له الحبل،
وعلى مقربة منه تربعت صاحبته أو أمه "فاطمة شيخون" وقد وضعت أمامها
متجرها المكون من صينية تحوي البضاعة الملائمة، والتي تتطور حسب ما تقتضيه الظروف
فتارة نراها مليئة بالمشبك، وأخرى بالشطيطة، وثالثة بالكشرى أبو جبة، ورابعة
بالكسكسي"
وهكذا تعرفنا على مدى العلاقة بين بطلي القصة
خاصة بعد أن أخبرنا بأن الأب مات قتيلا في معركة في المدبح وكان الششتاوي في بطن
أمه، فجاء هذا المخلوق ليشد من أزرها
ويربطها بالحياة، نتأمله كيف يصف المشاعر الانسانية في أعلى درجات سموها وقد أحست
الأم في هذا المخلوق معنى لوجودها في الحياة.
" وكان بينه وبينها وهو لا يعدو
الأسبوعين عمرا، أحاديث لا تنتهي تتحدث إليه وتجيب على نفسها نيابة عنه، وتمضي
الساعات الطوال وهي لا تكل ولا تمل كأنها تحدث أعذب الناس سمرا وأمتعهم حديثا"
وهكذا خرجت المرأة بأول صينية مشبك لتبدأ
رحلة كفاحها، متخذة مقرها أسفل الكوبرى في "موضع سقع" أما ششتاوي:
" فقد كانت ترقده على حجرها ملفوفا في
هلاهيله مستغرقا في نومه فإذا ما أيقظه جوع أو ألم به ضيق.. ألقمته ثديها.."
ولكنه-مذ بدا يحبو على أربع- بدا مشاكسا.
".. وهو لم يكد يحبو على أربع.. حتى
تسلل من جوارها فاندفع إلى عرض الطريق ليستقر أمام أول عربة قادمة.."
رأينا كيف يربط أول حادث في حياة الششتاوي
حتى يجعله هو نهايته فيموت تحت عجلات الترام بعد أن كبر وذهب إلى المدرسة ورغم حرص
أمه الشديد في أن تظل ممسكة به طوال الوقت، وينتهي الحال بالأم أن تصاب في عقلها
ويزيد بها عدد المخابيل المحتمين "بالسيدة زينب" واحدا.
أما عن النهاية فدائما مغايرة للمقدمات
وموافقة للقضاء والقدر شأن المكان الذي تدور فيه، فالمكان هنا هو البطل، وكأنه
يرينا معه من خرم الباب أو من وراء الكاميرا.
في الخليج المصري
نتتبع معه قصة "عم شلاطة" بائع
قباقيب متجول يطوف بشوارع السيدة وأزقتها.. وينتهي به المطاف على حجر بجوار "بيت
العنتيل" بشارع الخليج فيأخذ في إصلاح القباقيب ودق السيور، ويصفه بالفنان
الملهم الذي طالما تفنن في صنع القباقيب، وتركيب الجلاجل الملونة.. ورسم النقوش
وحفرها.. والسمو بصناعة القباقيب إلى مستوى رفيع.
ويتعجب كيف يهجر مهنته المحترمة ويتربع على
دكة خشبية أمام بوابة "بيت العنتيل" يحتسي القهوة من وعاء صنع من قشرة
جوز هند وأخذ يسبل عينيه في كل رشقة:
"ومرت السنون دون أن يتقدم إلى البيت
مستأجر.. و"عم شلاطة" قابع في مندرته.. ويبدو أن الرجل قد استمرأ
المرعى.. فقد أخذ يمعن في ترويج الشائعات عن الجن الذي يسكن البيت.. ويروي عنهم
الأقاصيص المحبوكة الأطراف.. الجيدة السبك"
وهي أيضا من شخصية المكان:
"ولم تستطع شائعات الجن أن توقف فعل
التنظيم، وطلع علينا الصباح ذات يوم فإذا بالمعاول تقوم بواجبها في إزالة
"بيت النتيل" الطويل العمر العريق النسب من على وجه الأرض"
"وانتهى الأمر بصاحبنا إلى أن يستقر في
بقعة من الأرض الفضاء مكان البيت المهدوم، ويصنع لنفسه كوخا صغيرا وصندوقا لبيع
الكازوزة متجرا"
ويستمر الراوي يمر على "عم شلاطة"
كل يوم ويرى تطور أحواله وهو يدق من خشب الأنقاض فيظنه في البداية قد عاد لصناعة
القباقيب ولكنه يستمر في الدق يواصل الليل بالنهار في عمل شيء مجهول راميا
باستغاثة الجيران من هذا الازعاج عرض الحائط حتى اتضح أنه يصنع سلما خشبيا عريضا
ثابتا متينا ذي درجات ودرابزين متقن الصنع، ثم وضعه على الأرض بجوار كوخه لم.؟
ولمن.؟ هذا ما لخصه لنا الراوي بعد الحاح شديد على الرجل في معرفته:
أستطيع أن الخص القضية في أن "بيت
العنتيل" كانت تسكنه جنية تدعى سوسو العنتيل، وهي زوجة المرحوم الطيب الذكر
السيد شندي العنتيل.
وسوسو هذه كانت في حياتها امرأة لعوبا وقد
أذاقت زوجها الأمرين إلى أن ضبط أحد عشاقها معها في مخدعها، ولكنها استطاعت أن
تهربه من النافذة وحاولت أن تفر هي الأخرى حتى لحقها ورفعها بين يديه وقذفها من
أعلى السلم فهوت إلى بير السلم، ودق عنقها، ولم يكتف الرجل بهذا بل لحق بها إلى
أسفل السلم وأمسك بعنقها وجزه بسكين في يده.
ويهز "عم شلاطة" رأسه ويتمم قصته
في صوت مؤثر:
-
وكانت الدنيا ضلمة، وألقيت نصف الليل، والهوا
بيصفر، وهبت الريح ففتحت درفة الشباك اللي على السلم، وطلع القمر من بين السحاب
فوقع نوره من الشباك على القاتل في يده السكينه والجثة وهى كوم من اللحم غارق في
بحر من الدم"
ويضيف عم شلاطة:
"أنا قعدت عشرين سنة في "بيت العنتيل"، كل شهر في نفس الميعاد
لما البدر يبقى في تمامه أشوف العفريتة وهي بتسقط من فوق السلم، وبعدين تقول لي
أنا في عرضك خلص علي.. فأجيب السكينة وأروح مخلص عليها لغاية ما اتهد البيت"
ويستمر الحوار فنعرف أن السلم مصنوع بأمر من العفرتة حتى تقع من عليه وتنزل
ترف وتنقصف رقبتها فيقوم هو بذبحها، ونظر الراوي خلف السلم فرأى أثار دماء داكنة
متجمدة فأحس بركبتيه ترتجف.
ولم يشأ الراوي أن يتركنا هكذا في حال من الرعب أو يدعنا أقرب إلى التصديق
فختم القصة بهذين السطرين.
"وفي الصباح مررت "بعم شلاطة" من بعيد فوجدته منهمكا في ذبح
بعض دجاجات حملتها إليه إحدى خادمات الدور المجاورة ووجدت الفراخ تتخبط في دمائها
أسفل السلم"
وعلى هذا المنوال نلاحظ أن كل شخصية من شخصيات هذه المجموعة بها نفحة من
محاسيب السيدة ودراويشها، ومجاذيبها، شحاذيها صعاليكها، وخبايا هذا المجتمع لا
تفتح ألا لمن يدق يحب ورغبة أكيدة في المعرفة. ومن هذه الآثار ما مضى إلى حال
سبيله ولم يبق منه إلا رسما ممتزجا بالأسطورة الذي رواها بإخلاص.
فهل صفة الإخلاص التي تميز بها الرجل هي التي جعلته يخلص لموطنه ويخلص في
الوصف للأماكن، وللأشخاص من الخارج ومن الداخل دون أن نلحظ أنه منحاز أو كاره لها
أو متعاطف أو ناقم، ولكنه يعطيك كل أحاسيسه وتجاربه وانفعالاته.
وهذا سر نجاحه ككاتب، حيث أنه لم يكتف بدور المتفرج بل يعيش الأحداث
ويختزنها بعد أن تتسرب إلى نفسه ويصبح هو أحد أبطالها وها هو ذا يتعاطف مع الناس
البسطاء والمكان البسيط والتصرف التلقائي.
فكتب البيئة المصرية من خلال منطقة السيدة زينب بواقعية شديدة فجات في
أعماله الأصالة بل أننا لو جمعنا أعماله وتابعنا تارخ صدورها لوجدنا أنفسنا أمام
سيرة ذاتية للرجل ولا أقصد بذلك أنه ينقل الواقع كما هو أو يسجل ما يشبه اليوميات
بل هو يختزن ويفرز فيما بعد، فلم يكتب عن المجتمع الذي عاشه في بدء حياته إلا بعد
أن ترك هذا المجتمع بخيره وشره وأصبح ضابطا في الجيش، فكتب "السقا مات"
معبرا عن حزنه عندما مات أبوه، ولم يكتب عن الأحداث التي مرت به وهو ضابط في الجيش
إلا بعد أن ترك الجيش فكتب "رد قلبي" سجل فيها الانفعالات التي أدت إلى
قيام الثورة، وكتب "نادية" و"التأميم سبيله" وكتب "جفت
الدموع" مستعينا بأحداث الوحدة بين مصر وسوريا.. الخ.
إنسانا في القصة
دائما يكون هناك سؤال حول كون الشخص أديبا وكونه انسانا وبالنسبة ليوسف
السباعي فأنا أراه أديبا في رواياته إنسانا في قصصه ففي الرواية تكون لديه مساحة
من الحرية ليبدع من خلال ما رسخ في ذهنه من تأثير ظروف حياته، وتكوين شخصيته أما
يوسف السباعي الإنسان فنجده في هذه المجموعة التي بين أيدينا ففيها يتعاطف إنسانيا
مع أحداثها وأبطالها وإن بدا محايدا في الوصف إلا أنه بمجرد اختياره لهذه النماذج
فهو متعاطف إنسانيا معها والخيال هنا دوره محدود حتى لو ألبس الشخصية صفات من عنده
فهي أيضا مستندة على واقع.
أما عن الإسلوب فلا أجد خيرا مما قاله "طه حسين" عندما كتب مقدمة
قصة "الفيلسوف" التي كتبها الوالد "محمد السباعي" وأكملها
الابن "يوسف السباعي" فالأب أديب رائد، يكتب المقال والقصة وترجم
الإلياذة.
فكتب طه حسين يقول:
"كنت أفضل ألا يكملها يوسف السباعي وتترك كالسيمفونية الناقصة..
وخصوصا لأن هناك فرقا كبيرا بين"محمد السباعي" و"يوسف
السباعي" فرق بين جيل يعني باللغة ويحفل بجذالة اللفظ، وجيل يوسف الذي يعبر
من أقصر الطرق عن المعنى الذي يريد أن يقوله.
وعلق يوسف السباعي قائلا:
إنني سعيد بهذا التشبيه لأن جيلي أنا يعيش في زمن الرتم السريع.. ربما
يتميز الجيل القادم باختصار أكثر.. وربما تلاحظون الأسلوب التلغرافي الذي بدأ
يمارسه نجيب محفوظ.
ويوسف السباعي الإنسان الذي عرفه الناس كاتبا للقصة ومحررا في مسامرات
الجيب، ثم عضوا منتدبا لمجلس إدارة روز اليوسف ثم رئيسا لتحرير آخر ساعة ثم رئيسا
لمجلس إدارة دار الهلال ثم وزيرا للثقافة ثم رئيسا لمجلس إدارة جريدة الأهرام.
ويعرفه رجال السياسة سكرتيرا عاما لمؤتمر الشعوب الأسيوية الأسيوية
الأفريقية.
ويعرفه رجال العلم والأدب سكرتيرا عاما للمجلس الأعلى للفنون والآداب، ورئيسا
لنادي القصة، ويسمى فارس الأدب لأنه كان ضابطا في الجيش المصري في سلاح الفرسان
حتى وصل إلى أعلى رتبة.
وفي كل مكان تولى "يوسف السباعي" رئاسته أفاد فيه الكثيرين.
فعندما أصبح سكرتيرا للمجلس الأعلى للفنون والآداب وضع مشروعا لتشجيع "أول
كتاب" للناشيء بأن يدفع المجلس مبلغا من المال سلفة نشر، وهي سلفة لا ترد،
ولكن يرد بدلا منها عدد من الكتب يوزعها المجلس على المكتبات العامة والمدارس
والهيئات أرأينا أكثر من هذا تشجيعا للشباب، وانتشارا لأعمالهم.
وقد سأله سائل:
- ما هو سر حب الناس لك.. قال حبي لكل الناس.
وسئل عن معنى الالتزام قال:
- أنه يلتزم بوحي من ضميره صادقا مع نفسه، كما كانت حياته خصبة غنية أثمرت
لنا أدبا عميق الإنسانية في البحث عن المصير الكلي للبشر، وجسد الشخصية المصرية في
أدبه وحياته وضوحا وبساطة واستقرارا وضميرا.
ولو نظرنا لحياتنا الأدبية نجده هو الذي أنشأ نادي القصة، وجمعية الأدباء،
والمجلس الأعلى للآداب والفنون، واتحاد الأدباء العرب، واتحاد الكتاب المصريين.
فهل نتخيل حياتنا الأدبية قبل كل هذه المنشأت.!!
تنبيه واجب:
الكتاب الذي وقع في يدي من مكتبة الأسرة لعام 96 ولا أعرف تاريخ الطبعة
الأولى منه ولكنني استنتجت أنها سنة 1950م وإذا رجعنا إلى المقدمة وجدناه يقول:
"ولقد كان أول من هلل وكبر لهذه الجولة الأستاذ الفنان "الحسين
فوزي" فقد أصر على مصاحبتي بريشته ليسجل للتاريخ صورا مصرية أصلية.. ويبرز
لوحات من صميم الحياة المصرية"
فأين هذه اللوحات.؟ لماذا لم يزود بها الكتاب كما هي في الطبعة الأولى.؟
فما أحوجنا إليها الآن بعدما طرأ على الحي من بعض التغييرات وان كان الفنان
"الحسين فوزي" قد سجل هذه اللوحات كما قال التاريخ وقد محاها.؟! ثم يختم
مقدمته بقوله:
ولا أظنني قد وفيت الحي حقه بهذه الأقاصيص.. ولا استنفدت بها كل ما في
الذاكرة عنه.. ولا أظنني إلا عائدا إليه مرة أخرى.. فما زالت ذكرياته تملأ رأسي..
ولست بمستريح حتى أسكبها على الورق"
ترى هل أكمل "يوسف السباعي" أقاصيصه عن الحي.؟ وفي أي مجموعة هي.؟
أم يد الغدر التي اغتالته لم تدع له هذه الفرصة.؟!
وإن كان "ليوسف السباعي" خصوم، فسؤالنا هو علام الخصومة.؟!
هل لأنه رجل فظ.؟ هل لأنه ليس أديبا ويفرض أدبه على الساحة بلا وجه حق
سارقا جهد الآخرين وناسبه لنفسه.؟
ومن العجب أنه لا هذا ولا ذاك، بل لأنه من المؤيدين لمبادرة السلام.!
وخير رد على ذلك ليكون مسك ختامنا هو كلامه نفسه معلقا على الذين لم يعجبهم
مبادرة السلام.. وتوعدوه لنعرف كم هو متسامح يدعو حتى لأعدائه المطالبين بدمه:
"وفي الجانب الآخر وقف الأخوة الأعزاء رفاق الأمس يطلبون رءوسنا
ويهدرون دمنا.
لقد تعودنا منهم إهدار الدم بعد القبلات والمطالبة بالرأس بعد الأحضان،
وإذا حفظ الله رءوسنا من الاطاحة فانها مازالت تنتظر القبلات وإذا صان الله دمنا
من الإهدار فأذرعنا مفتوحة لعناقهم.. حفظهم الله ممن أراد أن يطيح برءوسهم وأن
يهدر دمهم.. وفتح عيونهم على الحق لأنها قضية وطن وليست لعبة شطرنج.
إنها قضية الذين أبصرناهم في الأرض المقدسة يهتفون للرجل الشجاع لأنه أسمع
العالم صوتهم.
مجلة القصة/ يناير- فبراير- مارس 1999
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق