الأحد، 1 يوليو 2012

رحلة كاتبة عربية فيما وراء الزمان .. والمكان في إطار من ((حب لم يعرفه البشر))


رحلة كاتبة عربية فيما وراء الزمان .. والمكان في إطار من ((حب لم يعرفه البشر))
بقلم: محمود قاسم
ظل العالم الآخر بما يحتويه من غموض وسحر ورهبة يلهب خيال الفنان والأديب والعالم. فراح يتصور شكله وأبعاده. وما يمكن أن يحدث فيه من حكايات دنيوية قريبة من تلك التي يعيشها الانسان في حياته الفانية. وقد راح الفنان والأديب يصوران في أعمال عديدة متفاوتة الأهمية كيف يمكن أن تكون صورة هذا العالم، فراح دانتي الليجيري من خلال الجحيم والمظهر يصور مأل الانسان في آخرته. وما يمكن أن ينتظره من نعيم أو جحيم في أبدع قصائد الشعر العالمي.. ويمثل هذا العالم شغف كل من جان بول سارتر وتوفيق الحكيم ومايكل فوكس وآخرين.
ولعل الأقصوصة التي كتبها الحكيم تحت عنوان "طريد الفردوس" كانت أحد أبرز الأعمال الأدبية التي تنتمي إلى هذه النوعية. حيث مات شخص يدعى عليش وعندما صعد إلى السماء وتمت عملية حسابه على ما مارسه في حياته اكتشف الملائكة –في خيال الكاتب- أن عليش لا يمكنه أن يدخل الجنة أو النار، لأن حسناته تساوي سيئاته. فتمت إعادته إلى الدنيا كي يراجع حساباته مع الحياة.
ومن جديد وجد نفسه أمام الخير والشر. ومن جديد أيضا مات دون أن يعرف إلى أين يمكن أن يذهب.
وفي رواية حكاية السيد جوروان لمايكل فوكس تم إعادة السيد جوروان مرة أخرى إلى الحياة كي يعيد أيضا حساباته "فأحب ومارس بعض الالعاب الرياضية التي تفوق فيها. وعاش ثريا وفقيرا ثم مات مرة أخرى وصعد إلى السماء".
إلى هذه الأجواء اخترقت الكاتبة نادية كيلاني حواجز الأزمنة والأماكن في روايتها ((حب لم يعرفه البشر)) من خلال رجل يدعى الحاج عبد الستار، تصور أن الحياة التي يعيشها الأخرون مليئة بالمتاعب والآلام المتكدسة، وأن الصعود إلى العالم الآخر أفضل بكثير من مشكلات الحياة الدنيا، فهو رغم أنه رجل ملتزم بدينه في سلوكه اليومي إلا أن ما يسمعه على ألسنة الآخرين يجسد لديه حلم الصعود الأبدي، لذا فإن الحي الذي يسكنه عبد الستار لم يصبح مدينة فاضلة كالتي عاشت في تفكيره.. وبقيت المدينة الفاضلة حلما في خيال كل من أفلاطون وعبد الستار.
وهذا الرجل يؤمن أن كل شيء من حوله قد تغير، ولكنه يؤمن أن هذا التغير كالميكروب الذي يصيب الجسد لفترة وما يلبث أن يبرأ منه، فهو يصبر نفسه ويستمر فيما تعود عليه رغم احساسه بالمآسي التي تحوطه.
فالأخبار تحمل ما يكشف عن سوءات العالم من حوله.. والصحف مليئة بأخبار الجرائم، وقريحة الزمن تجود كل يوم بالمفاجآت:
 "ففي كل نهار جديد هناك قصة بشعة.. شاب أطلق النارعلى وليده.. زوج مزق جسد زوجته ووزعه على صناديق القمامة.. أم تقتل ابنها الشاب من أجل حبها الجديد.. وكل يوم قصة تحدث شرخا في جدار مخه المتين أو الذي كان متينا.. وكل يوم يقربه من الهاوية ولا يزال يضرب كفا بكف"
هذه الأسباب وغيرها تدفع بالرجل أن يخرج من لباس الدنيا إلى لباس العالم الآخر.. وتتحول فكرته إلى حالة مرضية تتجسد وتتضخم حين يقرر أن يسحب معه إلى هناك  سبعة أشخاص يختارون أنفسهم بأنفسهم بطريقة عشوائية حين يوافقون على الركوب معه في سيارته الأجرة.
ويدبر لنفسه وللركاب معه حادث يموت على أثره الجميع.
ومن خلال الحوار الذي يدور بين السائق وبين ضحاياه السبع يتصور الرجل أن المصادفة قد أجادت اختيار سبعة أشخاص تليق ظروفهم الحياتية تماما مع الاستعداد للرحيل عن الدنيا:
"فأحدهم يبدو عليه أنه دحلاب.. يضع فوق عينيه نظارة سوداء تلازمه داخل السيارة، تنكفيء مع إمالة رأسه وهو يصب في أذن زميله بكلمات يتأفف لها وجه الرجل الآخر"
 وفي خلال فترة زمنية قصيرة يحكي كل منهم مأساته. لذا يقرر عبد الستار البدء في تنفيذ خطته.
فقد لمس بنفسه مبلغ تعاستهم.. كيف سلبت الدنيا إرادتهم يحيون بلا أفئدة.. بلا ضمائر.. بلا مشاعر.. يلوكون عذاباتهم بلا حول ولا قوة.
وتبدأ رحلة الكاتبة الحقيقية فيما وراء الزمان والمكان.. وفي الفصل التاسع.. تتكون الرواية كلها من عشرة فصول –وهذه هي إحدى مسالب الرواية- وكأن الفصول الثمانية السابقة هي رحلة تمهيدية للحدث الرئيسي في الرواية.. وهذه نقطة أفلتت من الكاتبة.. لكن ما تحدثت عنه في الفصل التاسع .. وهو طويل نسبيا- يشرح وجهة نظر الكاتبة حسبما ترى. فبعد أن نجح عبد الستار في أن يندفع بسيارته الحاملة لعدد من العابرين من رحلة الحياة إلى الموت داخل شجرة.. يبدأ الفصل التاسع في ما هو وراء الزمان والمكان.. تقول عنه الكاتبة أنه مكان فسيح.. ضبابي.. تملأه السحب.. حيث التخيل الأخضر.. زاهي الخضرة، فيجد المرء نفسه يدور بقوى غير مرئية، ومع كل دورة تقترب منه سحابة مكورة يفض تكويرها.. تفصح عن واحد من الركاب السبعة في حالة انعدام وزن.. وسرعان ما تثبت أقدامه فوق الأرض الهلامية.
والكاتبة لا تقف طويلا عند وصف هذا اللامكان.. واللازمان.. قدر اهتمامها بالحديث عن تبادل الآراء بين عبد الستار والركاب السبعة. فهو يقف أمامهم بعد الوصول إلى العالم الآخر ليسأل عن مكافأته إزاء قيامه بنقلهم من الدنيا حيث المتاعب.. إلى آخرة تخلو تماما من المعاناة.. فإذا بأخلاق البشر هي هي .. لا تختلف.. دنيوية الاستطلاع والتفكير.. ممزوجة بالطموح والطمع في أديم الحياة.. حيث يتقدم السبعة عابسين ناقمين.. مقوسين أذرعهم كي يطبقون على عنقه.. ورغم أن صوتا فضائيا يبشرهم بالجنة ويدعوهم إلى دخولها.. إلا أن أصواتهم تتحد جميعا في اعتراض مرددين مثلما حدث للسيد جوروان "لقد جئنا قبل الأوان".
ويردد أحدهم قائلا لعبد الستار: "لتعرف كم أنا طيب القلب.. سأتولى تفهيمك بنفسي ما عجزت عن فهمه طوال عمرك.. حبك للخير من نوع غريب.. نوع غير موجود.. حب لم يعرفه البشر.. يعرفه خيالك المريض فقط.. أنت تسببت في فوزنا بالجنة –لا ننكر هذا- وقد كانت بعيدة المنال –هذا صحيح- المشكلة أنك نأيت بنا عما كنا نحلم به بالفعل.. فلكل منا أعماله ومهامه وأمنياته في الدنيا.. يوم ينجزها يشعر بذاته، وقيمته.
والكاتبة تهتم في المقام الأول بإبراز ذلك الحوار الدائر بين السائق من جهة والركاب من جهة أخرى.. فإذا كان لكل منهم مشكلة قبل الصعود إلى السماء .. فيجب على كل منهم مجابهة هذه المشكلة وحلها والتمتع بذلك قبل أن يصعد إلى السماء.. وكان على كل انسان أن يختار بنفسه لحظة صعوده.. وكما يردد رجل من الركاب وصل إلى مقر رئيس مجلس إدارة فإنه يقول: "لا تظن أنني وصلت إليه بسهولة.. كان الكفاح طويلا والتخطيط دقيقا.. والصبر مريرا.. وهل مداهنة الرؤساء بالأمر اليسير:
"آه لو تعرف كم تكبدت من عناء حتى سلم لي رئيسي الساذج لحيته، اليوم الشركة كلها في يدي، أحكمها بقيضة من حديد"
وهكذا يدور حوار دنيوي في قلب العالم الآخر، ومثل هذا النقاش لم يحدث في الأعمال المشار إليها لتوفيق الحكيم وسارتر ودانتي، وهي دائما رحلات فردية.. يقوم بها شخص وحده وهو محكوم من القدر.. ليس له يدا أن يعترض على مصيره.. ولكن عليه أن يقبله شاكرا لله وحامدا لقدرته وعفوه.. أما أبطال كاتبتنا.. فهم قوم دنيويون.. لا يرجعون الدنيا برغبة سماوية.. بل يطلبون ذلك ويلحون عليه بشكل عمدي.
وكل منهم يحاكم نفسه دون ندم عدا عبد الستار الذي يرى فيما فعله عملا بطوليا.
وهذه المحاكمة الدنيوية داخل العالم الآخر تكشف عن الجانب الحقيقي للإنسان.. ضعفه قبل قوته.. ارتباطه بالوجود قبل الفناء.. يسعى إلى امتلاك الدنيا حتى بعد أن يرحل عنها.. "لست خجلا من الاعتراف بذنوبي.. وشجاعتي تنبع من ندمي على ما اقترفت يدي ورغبتي في العودة إلى العيش الشريف النظيف"
وقد راحت الكاتبة تحاكم هؤلاء الأشخاص الدنيويين من خلال الحوارات الطويلة التي دارت فيما بينهم وبين السائق، وتكشف الكاتبة أن البشر سوف يأتون إلى العالم الآخر بشرورهم ونقائصهم والأنانية التي تقود خطاياهم وتوجه عقولهم، فيصرخ فيهم عبد الستار: "أنتم لا تستحقون الجنة.. لا يليق بكم هذا المقام الطاهر ولا شم ريحها.. سوف أصلح خطأي .. هيا اخرجوا منها.. ابتعدوا عن هذا المكان.. أفسدتم كل شيء علىَّ حتى رائحة الجنة التي كانت تهب من وقت لآخر الآن قد تغيرت.. أشعر بالاختناق"
ولا شك أن الكاتبة قد بلغت من الذكاء أنها لم تكشف هل كانت رحلة عبد الستار وركابه السبعة إلى عنان الخلود موقوتة.. أم تمت في خياله فقط، بعد أن اصطدمت سيارته بالشجرة.. ويمكن للقاريء أن ينظر إليها على أنها حلم سرمدي تمت وقائعه بسرعة غريبة بحيث تم على أثرها إعادة الجميع إلى الحياة بعد أن أعلنوا رغبتهم في العودة الجماعية إلى الدنيا.. ويمكن لقاريء أخر أن يتصور هذه الرحلة قد حدثت من داخل جو فنتازي واسع المساحة.. وإنها لم تكن أبدا خيالات عقيمة في رأس عبد الستار.. ومن هنا تجيء أهمية الحدث.. وأيضا الفصلان الأخيران من الرواية.. وهي عمل لا بأس به حاول سبر غور اللازمان واللامكان.. وهي أجواء غريبة على القاريء العربي الذي يميل أكثر الى أرض الواقع.. لكن الكاتبة لم تحرمه منه فأخذت تحدثه عنه.. وأبطالها هناك.. في عنان العالم الآخر.
.......................
العدد 388 – 11 مايو 1988 مجلة الأسرة – سلطنة عمان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق