قمر أزرق في مدينة
سوداء
بتقنية جديدة قدمت لنا د. عبير سلامة روايتها
قمر أزرق.. وغرابة العنوان تجعلك تتساءل هل هذا العنوان موظف في العمل.؟
ثم ما معنى قمر أزرق.؟
جاء المعنى على لسان إحدى بطلات الرواية "سحر":
- هو القمر الذي يولد في الشهر الميلادي ..
مرتين.
وما خاصية هذا القمر.؟
على لسان سحر نفسها:
- يقال أنه يجعل الناس يقعون في الحب.. وتستمر:
- عدد المواليد يزيد مع زيادة القمر حتى يصل
إلى أقصى معدل يوم كامل
استدارته ويسمونه القابلة الكبرى.
هذه قصة القمر وصفاته..
فهل هذا القمر له دور في الرواية رغم أنه لم
يذكر إلا مرة واحدة في مشهد واحد.
الإجابة نعم، ففي خطوط متوازنة قصص الحب
متبادلة على الجنبين.
هالة تحب أحمد وهو زوج سحر وهذا خط في
الرواية.
وأحلام تحب أمين وهو زوج منيرة وهذا خط ثان
في الرواية.
وخالدة تحب جارها وهي زوجة لأبي صالح، وهذا
خط ثالث في الرواية.
وعلي يحب أحمد ويريد أن يزوجه من أخته ماهية.
وماهية تلميذة لهالة تحبها وتحكي لها أسرارها.
الرواية
عبارة عن عدة قنابل تطلق في وجه المجتمع المغلق الذي تدور الأحداث بلسانه.
*أبو عبد الله يتفق مع زوجته على الإيقاع
بأمين وتسجيل أحاديثه مع الزوجة للزج به في السجن.. قنبلة أولى.
*ذات العيون الخضراء تدور في الأسواق تلقي
برقم تليفونها لمن يعجبها وتطلب منه أن يحاكيها بعد نصف الليل.. قنبلة ثانية.
*أحلام تخرج مع أمين للأسواق وللتنزه بأمان
وكل النساء هنا إذا ما ارتدين السواد متشابهات.. قنبلة ثالثة.
*حوار أحمد وعلي حول الزواج المؤقت ومحاولة
على إثباته عند الأحناف.. قنبلة رابعة.
*خالدة تشير لجارها وتشجعه في غياب زوجها،
ومنطقها ما شابهت زوجها فما ظلمت. قنبلة خامسة.
*رجل في زي النساء الساتر الذي لا يبين منه
ملامح الوجه يطرق باب منيرة ليلا.. قنبلة سادسة.
*هشام بن أمين ومنيرة يتعرض للخطف
والاحتمالات كثيرة ولكن ربنا ستر.. قنبلة سابعة.
****
وكما قالت المؤلفة في إهداء كتابها:
*كالقمر الأزرق نحتاج غالبا للمرور على الشيء
الواحد في الزمن الواحد.. مرتين فهل فعلتْ.؟
*يمضي بنا الحديث عن أمين زوج منيرة، رجل
خلبوص يرى نفسه في جملة تقولها أمه: "ما خلف إلا فيك يا أمين" معه مفتاح
بين أحلام يغدق عليها الهدايا ويتجول بها في الأسواق.
من قبل كان يحب سحر ورضي أن تتزوج أحمد ومع
ذلك يستسلم لمغازلة أم عبد الله في التليفون دون أن يراها ثم يدخل عليه المكتب أبو
عبد الله ورجلان يوسعاه ضربا وينقلاه فاقد الوعي إلى دار أبي عبد الله الذي يحضر
له الشرطة ويتهمه بأنه تهجم على بيته ويسمعه تسجيلا بمكالماته التليفونية فيعلم
أنه وقع ويردد جملته:
"أليس غريبا أن ينجو متهما عشرات المرات
ثم يقع أخيرا وهو بريء"
وما سبب هذه التلفيقة.. تسوق المؤلفة عدة
أسباب.
1- لأبي عبد الله مذهب كان يدعو إليه في مصر
ونهاه أمين عن ذلك.
2- في المطار تعرضوا لتفتيش دقيق أفسد
أغراضهم فصاحت منيرة:
"لولاهم ما تعرضنا لكل تلك
المهانة" وسمعها أبو عبد الله وغضب.
3- طلب أبو عبد الله سندات سداد وهمية وأخرى
مغشوشة، لكن أمين رفض.
فأي هذه الأسباب السبب.؟!
لا يعني المؤلفة أي من الأسباب بقدر ما
يعنيها أنها مجتمعة دليل فساد.
*خالدة تكره في منيرة أنها تحب رجلا يخون..
يسافر أبو صالح في كل أسبوع ثلاث ليالٍ.. كيف تهدأ وهي في كل يوم ترى عربدة
داعرين.. يأست من الزوج ولكن الآخر موجود دعته ولبى.
وليست علاقات فردية فقط ولكن هناك مشغل نورة
له باب خلفي يتصل ببيت كبير ييسر المتعة للراغبين.
يا خبر أزرق كل هذا من قمر أورق.!!
****
*سحر زوج أحمد مات جنينها قبل أن يكتمل نموه
ويقال إنها أجهضت نفسها لأنها لا تريد أن ترتبط به، تسوء العلاقة بينهما، تحلم
برجل يحمل روح فارس وأخلاق نبي.
*أحمد يحب هالة، وهي تحبه كذلك، ولكن يؤرقها
أنها صديقة لسحر.
*علي يحرص على التودد لأحمد، يكثر معه الحديث
عن الزواج المؤقت، عن رغبته في أن يزوجه ويبقيه عندهم، عن المثل القائل:
"زوج بنتك لا ابنك" ثم يفصح:
"إنها أختي أبغي أن أزوجها لك يا
الحبيب" في البداية يتعاطف معه أحمد يرى صداقته له بمثابة الاعتذار عن كل ما
صدقه عنهم، يذهب معه إلى عرس جماعي، من هم.؟ إنهم الشيعة.
*"المهية" أخت علي التي يبغي
تزويجها لأحمد هي تلميذة هالة، بنت مجتهدة بدأت طريق التعليم بعد أن جاوزت الخامسة
عشرة ولديها طموح أن تصل إلى الجامعة، تحب هالة وتحكي معها عن جماعتها ومتاعبهم
وأسرارهم، وتحضر لها كتبا لفكرهم وسلسلة لعيد ميلادها، هالة تقبل الكتب على أن تردها
وترفض السلسلة.
****
ليس هناك شخصيات تحمل الخير والشر معا.
*أحلام لا تخشى سوى علية لذا ترى صحبتها لها
أحسن شيء في حياتها، إلا أنها على النقيض منها طاهرة نقية محمودة السيرة، تكثر من
لوم نفسها وتتساءل ما الذي أصابها هنا، أمين أغواها بالثوب الأنيق، وبالوظيفة
المناسبة، وبراتب كبير لصبري، استمرأت سخاءه معها فتجاوبت.. تعاتب نفسها أين كان عقلها
أي ضياع ينتظرها، وعندما تحترق ابنتها ترى أنه انتقام من ربها على أفعالها فتندم
وتقرر العودة إلى بلدها، ولحين العودة تغير قفل الباب.
*كذلك أمين حين يخرج من السجن ويسترجع حياته
ويندم على أفعاله، وحين يكتشف مفتاح في جيبه يرميه بطول ذراعه.
*وسحر لا تعيب على زوجها خلفا ولا دينا بل
تعترف أنه ممتاز لغيرها ووجودهما معا يظهر أسوأ ما فيها.
*هو كذلك يعترف بأنها امرأة نادرة المثال
لكنها لا تصلح له.
*وهذه هالة تقرر: لن أكون أنا التي تقوض بيتك
يا سحر، لو كان يستند على شعرة فلن أكون من يقطعها، فتحسم الموقف المعلق بينها
وبين أحمد بعدم الزواج به بغض النظر عما يؤول إليه علاقته بسحر.
****
أما التقنية الجديدة فقد جاءت الرواية على
شكل لقطات ومشاهد.. قد تفتح الرواية الباب بجملة ثم تترك الشخصيات تعبر عن نفسها،
وقد تتركهم يفتحون الباب بأنفسهم، وهذه التقنية تجعل القاريء وكأنما يعيش الأحداث
ويشارك فيها كما تتطلب كثير من التركيز.
ولا تنسى استخدام الرمز المعبر عن ذات الفعل
فعندما كان أمين يفكر في أحلام وفي حيلها الماكرة تصدمه الرائحة وشعور بالغثيان
"قط أمام باب المؤسسة"
وبعدما أنهى حديثه مع أم عبد الله تقتحم
حواسه رائحة نفاذة، احترق شاي، وكان هذا إيذانا بالعلقة التي أخذها من أبي عبد
الله.
****
- ما آخذه على الرواية المعلومات غير موثقة:
- لأن هذا هو القمر الثاني الذي يكتمل في شهر
ميلادي واحد يسمونه قمر أزرق.
- من قال هذا.؟
- لست أذكر، ولكنني قرأته في كتاب ما، يقال
أنه يجعل الناس يقعون في الحب.!
- يسمونه القابلة الكبرى.!
- الزواج المؤقت موجود لدى الأحناف، لست أذكر
النص، ولكني فهمت أنه إذا علم الأطراف جميعا أن الرجل سيطلق المرأة بعد حين فهو
جائز.
- مراهقات يا أستاذة منى ورائحة أنوثتهن قوية.
- لا لا يا هالة اسألي نازك تقول لك أنهم هنا
يعرفونهم من رائحتهم، أصلهم.. وانقطع الكلام.
الرواية تتكلم بلهجة البلد التي دارت فيها
الأحداث.. لا بأس ولكن هذا طغى على لهجة بلد آخر، فعندما قالت أم أمين "ما
خلفت إلا فيك يا أمين" أعتقد أنها لم تنطقها بهذا الشكل.
****
- هناك شخصيات لا دور لها في الرواية، فتأتي
في مشهد واحد مثل علية قريبة أحلام، منى زميلة هالة.
- إجهاد القاريء في معرفة المتحدث وهذا الإخفاء
مقصود لأنها تتعامل مع قاريء ذكي، ولكن إذا كان المتحدثون ثلاثة فيجب التنبيه
لمقولة كل واحد حتى لا يحدث خلط، ففي مشهد سحر وهالة وأحمد جاء الكلام عن القمر الأزرق
بحسب حساباتي على لسان سحر فإن كنت قد حسبتها صح فالأليق أن يكون على لسان هالة
لعدة أسباب.
1- لأنها مدرسة وتقرأ كثيرا.
2- لأنها تحب أحمد وفي موقف لا تحسد عليه
بسبب حبها لزوج صديقتها، وتحمل من الشجن ما يجعلها تتساءل عن القمر الأزرق الذي
يجعل الناس يقعون في الحب، وكأنها تلقي بعبء ما هي فيه على القمر.
وإذا كان الكلام جاء على لسانها فعلا فهنا
تقصير من الكاتبة لأنها لم تعمل حساب هذا الخلط.
المنولوج الداخلي للشخصيات بجانب كشفه عن
السرائر، يكشف أيضا عن قدرة المؤلفة على الاختزال، الجمل القصيرة ذات معان كبيرة.
أما براعة المؤلفة فتتمثل في عدم علم سحر بحب
هالة لزوجها.
كذلك لم تعلم مهية بحب هالة لأحمد.
وصبري لم يعرف بخيانة زوجته أحلام، بل يرد
اسمها أمامه في جملة الساقطات.
****
بقي أن نتكلم عن الجرأة التي تتناول بها
المؤلفة موضوعات شائكة تفضح بها مجتمعا يداري عيوبه تحت عباءة سوداء ويرفض المساس
بها وإن كانت قد أحدثت توازنا بسقطات بعض المصريين، فكأنها تعتذر عنهم بقولها على
لسان أحلام ما الذي أصابها هنا.؟
أبدا ما فرطت في نفسها.. كانت تنفر من الكلمة
العابثة في الطريق.. أيضا جملة بهذا المعنى جاءت على لسان سحر في حق أمين.
و"يا كهفي حين تعييني المذاهب"
****
وبعد فهناك لأديبنا الكبير يحيي حقي رأي يقول
فيه:
"لابد أن أسأل نفسي في آخر الرواية هل
أحدثت في نفسي النشوة، نشوة روحية.. نوع من الانتباه جديد إلى أن هناك رؤية جديدة
للحياة، وهناك عنصر هام جدا ضمن مسببات هذه النشوة وهي قدرة اللغة التي يستعملها
الكاتب على إثراء الصورة التي يرسمها بمختلف الألوان ومختلف الأطياف، وهذه النشوة
قد تحدث حينما تبلغ الصنعة ذروتها فلا فن بلا صنعة"
وقد أجادت الدكتورة "عبير سلامة"
الفن وأجادت الصنعة منذ أول رواية لها.
...................
نُشرت فى مجلة الثقافة الجديدة
يناير 2001
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق