الخميس، 1 يناير 2009

إحراج: في كتاب -القصة .. امرأة- "كتابات نقدية" عن الهيئة العامة لقصور الثقافة.



إحراج: في كتاب -القصة .. امرأة-  "كتابات نقدية" عن الهيئة العامة لقصور الثقافة.
الأستاذ محمد محمود عبد الرازق كتب عن المجموعة القصصية "إحراج" يقول:
قال:
أهم القضايا التي تطرحها مجموعة "إحراج" لنادية كيلاني (نادي القصة 2001) أننا لم نعد نملك من أمرنا شيئا، فالإعلام هو الذي يسيرنا بعد أن أصبحت له السطوة والجبروت..
في قصة: "أبو الولد" يطارد شخص القصة الراوية كل ليلة
-وبرغم وفاته- ليطمئن على ولده الوحيد، ونخلص من القصة إلى أن الأم لم تعد قادرة على تربية ولدها، فالمربي الحقيقي للنشء
-هذه الأيام- هو وسائل الاعلام.. فالولد يميل إلى المصارعة الحرة، وأفلام العنف، وأساطير هركليز، ولقد حولت التجارب العلمية الغذاء إلى دواء، "والطيور محقونة بهرمون يعطل الرجولة.. والخضراوات والفاكهة المصنوعة في أحضان الصوبة تعطل الأنوثة، والأبقار مجنونة والأسعار أجارك الله"..
وينتهي الحوار بين الأم والأب المتوفي بأن يتمنى الأب أن يكون الأمر بيده ليقدم طلبا لنقل ولده من الدار الدنيا إلى الدار الأخرة.
وفي قصة: "هذا الفراغ الجميل" يفرغ شخص القصة رأسه ليجد أنه محشو بما لم يكن لإرادته دخل في دسه بين تلافيفه، وعندما أراد أن يصنف ما أخرجه ويرتبه حزما، تسارع إلى الحزمة الأولى كلام كثير عن أهل الفن، "اكتشف أن عقله يدخر معلومات كثيرة عن الفنانين والفنانات، فلديه تتبع دقيق لحالات الزواج والطلاق الانزلاق.. حصر تام لما في دولاب الملابس، حافظة الأندية وخزانة المجوهرات، هذا الحصر بالكم والكيف والسعر تدوينا كاملا لعادات الفنان بداية من الأكلة المفضلة، واللعبة المحببة، وصولا إلى اللون المنتقى لطلاء الشفاة مع الغوص في أسرار عمليات التجميل واعتراضات الرقابة.. مرورا بالوقوف على دخان الشائعات الذي بنار والذي بغير نار.. ثم عدد قضايا الآداب.. إلى آخره" وذلك برغم أنه لم يشتر مجلة فنية في حياته، وعدم وجود أي صلة بينه وبين أهل الفن، وتسارعت إلى الحزمة الثانية كلمات مثل "الكرة أجوال.. احراز الهدف.. القدم الذهبية.. سعر اللاعب.. خناقات الملاعب.. حفلات الاعتزال.." رغم أنه لا يشجع أي ناد.. وليس من هواة الكورة.
ولعلنا لاحظنا أن عباراتها سهلة يسيرة، بريئة من الصنعة والتكلف، مع ترصيعها –أحيانا- بالصور المعبرة مثل قولها في القصة السابقة: "استعان بالله وتسلل مع الفجر على أطراف أصابعه تجاه باب الشقة وانطلق يستقبل خد الشمس القرمزي وهي مقبلة على الكون في حياء البكارة" وحين تقول: إنها هربت من صخب أصوات السيارات إلى النيل، لتنعم بصفحته المتلألئة تساءلت: "هل هذا تبر سائل بين شاطئين، أم أهلة ذائبة في أهلة؟"
نلاحظ أنها تنثر الأغنية المشهورة "يا تبر سايل بين شطين".. ربما تأثرا بالجو الاعلامي الذي يدينه شخص القصة.. وقد يفيدنا هذا في الإقرار بأنها لا تبعد عن جو العمل.
وأحسب أن اشتغالها بالصحافة أفادها في اتقان "اللغة الثالثة" كما اسماها توفيق الحكيم، وتأثرها بالصحافة لا يقف عند اللغة، إذ نرى مهنتها تتداخل في صورها ورؤاها، فعندما استعد شخص القصة السابقة لإخراج ما في رأسه: "شهق وضرب على صدره وهو يرى الكلمات والحروف تتسارع في الخروج من رأسه، وتملأ عليه فراغ الحجرة، شاهدها وهي تزيد وتتمدد.. تصعد وتهبط وتتلوى، يرقد بعضها بجواره فوق السرير، وبعضها فوق كتفيه وبين رجليه.." وتذكرنا هذه الصور –وفق زعمي- بإدراج الحروف في المطابع القديمة، والصور الكاريكاتورية التي تستعين بالحروف المتناثرة على أي وجه كانت.
وحين استمر شخص القصة في ترتيب ما بداخل رأسه اصطدم بجمل تحمله على الدهشة.. بل الاستنكار: "سياسة التجويع" إلغاء الدعم.. أطفال الحجارة.. تهويد القدس، بناء مستوطنات.. ضرب جنوب لبنان.. غرب سوريا والأردن.. شمال مصر.. عنجهية إسرائيل.. مذابح البوسنة والهرسك.. تصدير إرهاب.. مرواغة أمريكاني.. جدل عربي: "وما يسمع عنه من حاصلات وصادرات.. ترعة السلام.. قناة توشكى.. مترو الأنفاق.. كل معلوماته هشة وغير واضحة الملامح.."
وهذه العبارات ذات النبرة الدعائية العالية تصلح لمقالات الصحافة القومية، وليس للقصة القصيرة وخاصة هذه القصة ذات الهدف الواعي المحدد.
وتبني قصة ":اكتئاب موثق" على قراءة الجرايد، ويدور الحوار مع النفس، فالراوية تقرر أن تكتئب لأن الحياة "متعبة مملة والمعاناة لا تحتمل" والنفس تضحك وتطالب بمستندات الاكتئاب، فتقرأ الراوية مانشيت الصفحة الأولى: "صندوق النقد الدولي ينتقد أسلوبنا في الزراعة، والصناعة، والتجارة و.. التنفس.." ولا تقتنع النفس، فتحيلها صاحبتها إلى صفحة الحوادث التي تعد خصيصا
-في نظرها- لجلب الاكتئاب".. وتسرد الراوية بعض الحوادث التي تعبر عن الواقع المعيش مثل: "ضبط مدرس يقوم بترويج الهيروين" وتقتنع النفس، ثم تقرأ خبرا يضحكها: "ثلاثمائة حريق بمخازن القطاع العام والحكومة احتفالا بموسم الجرد السنوي" ولكن ضحكها هذه المرة كان كالبكاء.. بل هو البكاء.. ومن ثم فضحكها منذ البداية لم يكن من البهجة، وإنما من الكآبة. القصة وثيقة إدانة، وليست وثيقة اكتئاب.
وتدور قصة "إحراج" في إحدى المؤسسات الصحفية، غير أنها تتخطاها لتدين السلم الإداري على مستوى الدولة، ثم على مستوى العالم كله في ظل النظام العالمي الجديد، فرئيس السعاة يخصم يومين من راتب عامل الأسانسير لتأخره عن العمل، ومدير مكتب الأمن يلفت نظر رئيس السعاة لما يصله عنه من أخبار، ورئيس مجلس الإدارة يهدد مدير الأمن، ويوبخ رئيس التحرير للوضع المزري الذي انحدرت إليه المجلة، وفي الطائرة يطلب رئيس الدولة من رئيس مجلس الإدارة ألا يرشح نفسه لمنصب النقيب هذه المرة لأنه أصبح "كارتا محروقا" ورئيس الدولة العظمى يقول لرئيس الدولة: "لا سلام في المنطقة إلا بشروطنا" وفي النهاية يجلس عامل الأسانسير أمام التليفزيون  ليشاهد رئيس الدولة العظمى على الشاشة منكس الرأس "وهو يستمع إلى اعترافات البنت الشقية ذات الفستان الأزرق".
وتدور في هذه الحلقة المفرغة مرة أخرى بقصة: "نداااء العمر"  فالزوجة تظل تطلب الطلاق منذ أن ضمتها وزوجها غرفة واحدة وعرفت ألا اتفاق، حتى نهاية العمر، وقد أصاب زوجها الصمم فلم يسمع طلبها، وكانت تؤجل الطلب بناء على نصائح الأقربين في كل مرحلة: التعود، الجنين، الولد، الأولاد، البنات، زواجهم.. وفي النهاية: "ماذا تقولين.. لم أسمع.. ارفعي صوتك أكثر.."
وتواصل الكاتبة إدانتها للزمن الرديء بقصة "آخر زمن"
فالزوج يراود صديقه الأعزب لمعاشرة زوجته لينجب له الولد على أربع بنات جميلات"
وقضايا المرأة تتعانق في هذه المجموعة مع قضايا الزمن الرديء التي تسيطر عليه وسائل الاعلام ومكسبات اللون والطعم والرائحة و"المحمول، والدش" وهما قصتان من قصص المجموعة.
تحدثنا قصة: "في كل زمان" بصراحة ووضوح عن شقاء الأنثى منذ الميلاد، ونراها تستعين بالرمز اللغوي اتساقا مع العنوان الذي يفيد التعميم، فالبنت "سعادة" والولد "لئيم"
كان لها من الأيام سبعة عندما وضعوها في الغربال "وسط الزغاريد والتهاني دسوا في أذنها سن الإبرة المتوهج"
ولما كبرت فرحت بالحلق، وحين بلغت العاشرة كانوا يحذرونها من الأولاد، وهاهو جسدها يتمخض بين أيدي نسوة ضخام الأجساد  "أكثرهن جثة.. أكثرهن قسوة.. تمسك بآلة حادة تقطع جزءا حساسا من جسدها.. كانت تصرخ وتصرخ.. لكنها فارت .. وادورت.." ابنة السابعة عشرة لم يمنعها الخجل من سماع كلمات الإطراء، وعندما بلغت "سعادة" هذه السن افترسها "لئيم" في حقل القصب: "وبينما أفزعت الأم سكون الليل بصراخها على البنت الحلوة ذات السبعة عشر ربيعا.. كان "لئيم" يفزع عيدان القصب من جديد".
وربما عبرت الكاتبة في كلمات معدودات عن هذه المأساة المتكررة في قصتها القصيرة جدا: "الساحر" ونصها:
"رأت ملامحه من بعيد، تذكرته على وجوه الأخت، والصديقة، وبنت الجيران، تذكرته في دموع عبلة، وليلى، وعزة، وجولييت، تسلحت ضده.. وولت الفرار، لكنه لحق بي.. والغريب.. أكثر من مرة"
وهى كما نرى قصة مكثفة للغاية، تحمل الادانة للرجل في كل كلمة من كلماتها.
وتعالج في قصة: "اعتراف" الاختلاف الديني الذي يفرق بين الحبيبين، وفي قصة: "سيدة المقهى" غواية المرأة للمرأة مستغلة حاجتها، ثم تعود من جديد إلى رباط الزوجية المعذب للمرأة والزوجة في قصة: "عباءة الملك" ترفض أن تنمحي شخصيتها، وفي قصة: "انطلاقة" تتمنى أن يقتلها زوجها، بعد أن اتهمته بعدم الرجولة على أمل أن يطلقها فلم تفلح، وحين تتخيل أنها ماتت بيد زوجها تقول: "يا...ا...هـ... أخيرا تخلصت ولكن على طريقته، لا يهم.. إنه الخلاص على كل حال.. أوف لهذا العذاب الممتد، تبا لهذه الاجراءات التي تتم أمامي، إنني منزعجة مما يحدث.. ما هذا البطء حتى أشيع من هذا المكان، إنني الآن حرة فلماذا أقيد نفسي بالبقاء في هذا الجو الخانق، أستطيع أن أغادر دون احتياج لإذن بالخروج.. أما الجسد فليوسدوه أي مكان شاءوا.. كفى صراخا يا أحبائي.. كفى نواحا إنني سعيدة بالنتيجة لا تتهموا أحدا، فلا أشعر برغبة في الانتقام، لا أحمل غلا لأحد، قد منحت الحرية لمن أعطاني إياها، إنني الآن حرة.. وها هي الأرواح المنطلقة مثلي تدق الباب، جاءت لتأخذني إلى الفضاء الرحب، أفسحوا لروحي كي تغادر.. الأرواح تنادي، أسمع دقهن المتواصل على الباب، ونداءهن بسرعة الخروج من هنا، إلى تنفس نسيم الحرية والانطلاق، إنني ذاهبة إليهن.. طائرة معهن، دقهن يزداد.. يزداد.. إني قادمة.. سأفتح حالا.. سأفتح.."
 لكن الدقات كانت دقات زوجها لتفتح له.
وتتنوع معاناة المرأة في هذه المجموعة التي سبقتها على نفس الدرب مجموعة اتهام" (الهيئة العامة للكتاب 1997) في قصة: "لحظة تسليم" تصور نادية كيلاني معاناة الأم في أثناء مرض ابنتها وفقدها، والعاشرة من العمر هي سن تفتح البرعم عند كاتبتنا وهي السن الذي تم فيها الختان بقصة: "في كل زمان" وها نحن نراها تقفز في الطريق قبل الختان "تنط الحبل" تلعب الحجلة، تذهب إلى الحانوت.. لكنها لا تنسى في ذهابها وإيابها أن تنهر كل الصبية.. تقصيهم من طريقها ومن ذهنها كما حذرتها أمها وتوعدها أبوها"
وهي سن ذبول البراعم وموتها في قصة: "لحظة تسليم" والأم لا يسعفها صبر، ولا يعالجها هدوء، ولا تجف لها دموع، ولا يكف لسانها عن الندب على البنت الحلوة طريحة الفراش ذات السنوات العشر التي لا تعرف لرقدتها سببا، جاءت من المدرسة ساخنة "مفرفرة"  "والله ما تأخرت لحظة.. جريت بها على المستشفى العام لعلاج الغلابة والمنكسرين.. ونحن غلابة ومنكسرون، وليس لي غير البنت والولد.. الولد مازال يرضع، نسيته عند الجيران.. أي والله نسيته.. وجريت بالبنت.. الأب مات، وشقيانه لكي أربي العيال، والبنت هادية ونادية ومطيعة، وتحب المدرسة.. قلت ماذا فيها!!.. تأخذ شهادة تنفعها.. هي يدي ورجلي..."
جميع من بالمستشفى يشعرون بمأساتها. المرضى يدعون لها بالصبر، والممرضة والطبيب يلبيان طلباتها، وها هو الطبيب يترك المريض الذي عليه الدور، ويتخطى ثلاثة آخرين، ويتوجه إليها: "حاضر يا سيدتي، أكشف عليها ثاني وثالث.. المهم تهدئين نفسك، وتتقدم إليها إحدى الزائرات: "بدلا من البكاء والنواح سرحي للبنت شعرها وغيري ملابسها، وامسحي وجهها بالماء، ربما تفيق، وأنت أيضا تفيقين من البكاء الذي لا يقدم ولا يؤخر.."
وتقدم الكاتبة صورة أنثوية بالغة الدقة لا يقدر على رسمها سوى امرأة، فها هي الأم تمشط شعر ابنتها و"المشط يرفض بشدة الخوض في شعر البنت إلى آخره، تعثر عدة مرات حتى خطا أول خطوة، ومعها فقد أول سنة من أسنانه، نصحتها إحداهن أن تقص للبنت شعرها فيسهل تسريحه.. شهقت.."
"ومضت في عملها في هدوء وصبر، تأخذ خصلة خصلة وتمشطها على حدة بأناة وتمصمص شفتيها.. "أقصه شعر البنت!!.. فتل الحرير هذه!! والذي كانت تنطره وراء ظهرها.. أمواج، أمواج وتلمه ذيل حصان، وتبيِّن الحلق الذهب، وساعات تعمله ضفيرة أم ضفيرتين" وحين انتهت من الشعر تابعتها العيون وهي تذهب وتجيء بالماء، تمسح وجه البنت وتجففه وتنشفه حتى صار نظيفا لامعا.ثم انشغلت بقص أظافرها، وهي تتغزل وتصف جمال يديها واستدارة أصابعها، وغيرت لها ملابسها بمساعدة الممرضة، وطلبت منها تغيير "فرش السرير" لكن البنت ثقلت على الأيدي و"سبقتهما واندلقت على السرير"
وننتقل إلى النهاية والأم تتشبث بالسرير وتصرخ وتجري وراء التروللي الذي حمل ابنتها وهي تضرب رأسها في الحائط، وحين أدركت أنه لا رجعة، جلست على الأرض، وقالت وهي تمسح دموعها بانكسار: "هاتولي الحلق من ودنها.."
أزعم أن هذه القصة من أهم القصص، وخاتمتها من أكثر الخواتم توفيقا، وهي لم تطلب الحلق لأنها دفعت فيه لحم قلبها كما ذكرت في السياق، وإنما لأنه من الذكريات الغالية التي لن تنساها، ومن الأشياء الهامة التي ستبقى لها من رائحة ابنتها، عندما طلبته منها مثل البنات "نسيت أنها كبرت قدام عنية وبقت عروسه، خلعت من أذنها الحلق الفالصو وحلفت ما تلبس غير الذهب، بعت الحلة النحاس، ومن يومها وهى كما ترون احلوت في عيني أكثر، وكأن الحلق كبرها أكثر وأكثر، ورد خديها، وسبل عينيها، وجعلها تعرف تتعاجب به..."

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق