عذابات النفس في ((إحراج)) لنادية كيلاني
في كتاب -هموم
القصة القصير- "نقد" كتاب الاتحاد
دكتور: جمال
عبد الناصر.. كتب عن المجموعة القصصية "إحراج" يقول:
تعد نادية كيلاني من
كاتبات الظل، رغم جودة وتنوع، بل وكثرة إفرازها القصصي، "إحراج" (2001)
-نادي القصة – الكتاب الفضي، مجموعتها الثانية بعد مجموعة "اتهام" (1997)
-الهيئة العامة للكتاب- ولها مجموعة ثالثة تحت الطبع، هذا عدا قصص الأطفال التي
تعشق كتابتها، ولها رواية وحيدة بعنوان "حب لم يعرفه البشر" عن سائق
تاكسي يقود مجموعة من المسافرين كل له قصته، وهذا في إطار فني مقبول، إذ ترمز
العربة بالحياة ويرمز المسافرون بالبشرية.
ونادية كيلاني كاتبة
متمرسة، تقليدية أحيانا، ولكن من باب الالتزام، إذ إنها تجرب معظم الوقت، بالشكل
الفني في عدد كبير من قصصها، وهي تبرم اتفاقا سلفا بينها وبين القاريء، يعطيها
وقته فتعطيه المتعة أولا، ثم تشد انتباهه ثانيا، فتثير فضوله، وتقدم له الدهشة، بل
المفاجأة أيضا، عبر نهايات قصصها الهادئة والهادفة والموحية في آن واحد، غير أن
نادية كيلاني لا تخوض في المناطق الوعرة التي قد تثير الجدل، أو تبعث على
المشكلات، مثل أمور الجنس أو السياسة أو الدين.
وأهم من هذا كله أن
نادية كيلاني – حسبما أجدها على الأقل- في مجموعة إحراج" تميل إلى الكتابة
النسائية، وإن كنت أظن أنها سوف تنكر ذلك، ولكن ثمة دلائل في هذه المجموعة، علاوة
على طبيعة تكوين الكاتبة، وطبيعة عملها (في مجلة نسائية) تجعلها تفكر دوما في
المرأة وفي رحلة معاناتها التي لا تنتهي أبدا، إذ تجعل القاصة هنا من عذابات نفس
المرأة محورا مضمونيا أساسيا، يشد القصص بعضها إلى بعض.
تنطوي قصة: "دعوت
الله" على صرخة أنثوية، تصدر عن امرأة كبلتها القيود التي فرضتها عليها أعراف
الجماعة، فتحاول التمرد للفت النظر إلى ضرورة مناقشة مشكلات المرأة، وعدم التسليم
مسبقا بوضعها، ومن ثم فهي ترتكب جرما، بقتل زوجها، ليشعر الناس بوجودها، قبل أن
تشير بسخرية إلى المرأة معصوبة العينين رمز العدالة المطلقة، والتي لا تستطيع دفع
الظلم عن نفسها: "كل ما تفوهت به في صلب القضية.. إحساسي بالعجز بسبب العصابة
فوق عيني وأنا أمسك بناصية الميزان.. ميزان الحياة.. شعوري بالنقص أمام المرآة،
أنوثتي قيد، وصوت أمي نادبة حظها فابنتها الوحيدة لن تتزوج لدمامتها.. منطقي قيد(ص20).
وتتمحور سيدة قصة:
"اكتئاب موثق" ذات العنوان الساخر، من حول سيدة تعاني من عذابات الوحدة
فتقرر أن تبرم اتفاقا مع الاكتئاب ولكنها -على العكس من ذلك- تضحك من أعماق قلبها
من كم السخف والعجب الذي يملأ الحياة، ولعل الحيلة الفنية التي تقوم عليها فكرة
القصة تعطي القاصة الفرصة للتعليق على حالة التدهور التي أتت على الأخضر واليابس،
بما في ذلك انحسار القيم واختفاء المعايير، وتردي الأوضاع، وهذا ما يأتي القاريء
عبر مانشتات إحدى صفحات الجرايد التي تنظر فيها الراوية.
وتختزل قصة: "نداء
العمر" مأساة سيدة معذبة من لحظة زواجها وحتى شيخوختها، حيث ظلت تحلم دوما
بيوم الخلاص حلم حياتها الذي لا يتحقق؛ لأنها تستمع كعادتها لصوت الآخر ولا تنصت
لصوت عقلها، ولكنها عندما تقرر أن تفعل ذلك يكون الأوان قد فات: "لما بقيت
عشرون شعرة سوداء.. تزوج الأولاد والبنات بقيت معه في غرفة واحدة.. تقول له بصوت
مبحوح يخرج من بين ثرم الأسنان يحمل وهن السنين، وعذابها.
- لماذا لا تطلقني.؟
يدقق عينيه ويكور
أذنه بيده.. ويقول لها:
- ماذا تقولين.؟ لم
أسمع.. ارفعي صوتك أكثر" (ص44)
وتتناول قصة: "في
كل زمان" عذابات الأنثى طفلة، ففتاة، فشابة، عبر ورطة "سعادة" وهي
فتاة ريفية بريئة، تفقد عذريتها، بعد إغواء شاب مستهتر لها، اسمه "لئيم"
استغل قلة خبرتها بالحياة وكونها ضحية مجتمع نسوي، يطالبها دوما بالاستسلام
لتقاليده منذ الميلاد(حفل السبوع) فالطفولة(تخريم الأذن) فالمراهقة (الختان) فتكون
النتيجة أن تسلم نفسها طواعية لأول شاب يطرق باب قلبها، ويعبث بخيالها: "دروس
الطفولة لم تصمد أمام نظرات ابن الجيران الولهان، نفذت إلى أغوارها.. مستها
الكلمات الساحرة.. أضاءت وجهها.. لمسة يده ألهبت جسدها..." (ص59).
وتجيء قصة "انطلاقة"
بعذابات سيدة متزوجة أخرى، حيث تعزف القاصة على نفس الوتر قصة "نداء العمر"
تقريبا، بمعنى أننا نقف على رحلة معاناتها وتعاستها، طفلة فابنة فزوجة، ولكنها لا
تستطيع أن تحصل على حريتها، زوجها دائم الشجار معها، ولا تعرف خلاصا من أزمتها،
مما يجعل خيالها الثري يعمل، لدى غياب الزوج مستبطئا رغباتها المدفونة في أعماقها،
فتتصوره وقد قتلها لأنها ترى الموت خلاصا من قيود زواجها المحبط: "وأخيرا
تخلصت ولكن على طريقته، لا يهم.. إنه الخلاص على كل حال.. أف لهذ العذاب الممتد"
(ص102).
وتتحول قصة: "سيدة
المقهى" إلى احباطات حياة أرملة، رحل عنها زوجها، مخلفا عددا من المشكلات
الأسرية والأعباء الدنيوية التي كان عليها أن تجابهها، بإرادتها، لأنها آثرت إلا
أن تربي أولادها، بدلا من الارتماء في معطف زوج آخر، ومن ثم كانت عذاباتها، تحاول
صديقة السوء الوقيعة بها في براثن الغواية، ولكنها لا تستسلم، وإن أوشكت على
الانزلاق، وتقرر مواصلة رحلة المعاناة بكل مشاقها وصعوباتها، ورغم تقليدية القصة،
فهى تدخل في إطار المضمون الرئيسي للمجموعة.
ونأتي إلى قصة
تقليدية أخرى تدور في فلك العذابات الأنثوية، وهي قصة: "اعتراف" أطول
قصص المجموعة قاطبة، وهذه القصة تندرج تحت أدب الاعتراف، ولكنها محبوكة البناء
جيدة الصنع ببدايتها الهادئة، ووسطها المتأزم ونهايتها المدهشة، هذا بالإضافة إلى
المصداقية الشديدة التي تغلفها، وتشد القاريء.
وقصة اعتراف كما
يتضح من عنوانها، تسرد مأساة أنثى تربت في أسرة متزمتة، تعاني في بيتها، فتتعلم بشق
الأنفس ويعقد قرانها بطريقة تقليدية، ولكنها تقع في هوى شاب مسيحي تكتفي بحبه ولا
تتزوجه بالطبع، ومن ثم تفاقم أزمتها، التي نتعاطف معها، لشعورنا بقهرها، وتمزقها
بين خطيبها، وعشيقها، في مثلث الحب التقليدي، وإن حاولت حسم الأزمة باختلاق أزمة
أشد قهرا منها: "والآن ثروت يلح لاتمام الزواج، وأنا أراوغ وأندمج في حياتي
مع رمزي، نريد أن نتزود بزاد يعيننا على الحياة الكئيبة القادمة، على أيام الفراق..
لأنه يوجد شيء أقوى مني ومن رمزي ومن أيام عذابي بعده، شيء أقوى من كراهيتي لثروت
وأنا أزف إليه.. هذا الشيء الذي يحول بيني وبين حبي وهنائي هو.. اختلاف الدين"
(ص129).
وتعيدنا قصة: "أبو
الولد" إلى عذابات الأرملة وهي تصارع الحياة للمحافظة على أسرتها، رغم فساد
الأمكنة، وفساد الأزمنة، مما يجعلها تتخيل عودة زوجها من العالم الآخر كل ليلة
للاطمئنان عليها فتدير معه حوارا راحت تناقش فيه مشكلات العصر، ومشقة العيش، في ظل
المتغيرات المتتابعة، لا سيما على صعيد المثل والقيم، مما انعكس سلبيا على ابنهما
الوحيد، وهنا يدفع الزوج إلى الصراخ فيها: "كفي عن الشكوى يامرأة.. لو كان
الأمر بيدي لقدمت طلب استعجال لاستدعاء الولد إلى هنا.."
وتصادفنا عذابات أم
أخرى، ولكن لبنت هذه المرة في قصة: "لحظة تسليم" حيث يموت زوجها، ويترك
لها ابنا وبنتا، ففرحت بهذه الأخيرة لدي بروز أنوثتها، ولكن سريعا ما تسقط صريعة
المرض، ولتلقى حتفها إثر إصابتها بحمى شديدة، فانفجرت الأم في نوبة من الصراخ
الهستيري، حتى: "أدركت أنه لا رجعة.. جلست فوق الأرض.. مسحت دموعها وقالت
بانكسار: هاتولي الحلق من ودنها" (ص50)
إن كانت عذابات
النفس تنسحب على المرأة حتى الآن في مجموعة "إحراج" فليس الرجل أسعد حظا
منها، فهو منكسر أيضا ومقهور، أعزب كان أو متزوجا، ففي أولى قصص المجموعة، مثلا،
وهي قصة: "من الشوك العنب" نلتقي بإنسان معدم، رجل محبط، ينتمي إلى
الطبقة البرجوازية، يحلم كغيره من البسطاء بمن يحل له مشكلته، أو يعينه على تجاوز
حياته: "ألا يوجد مؤتمر يحل مشكلتي، يلملم شعث حظي العسر من فوق الشوك..؟"
(ص9)
ونلتقي في قصة:
" هذا الفراغ الجميل" بمقهور آخر، ولكنه متزوج من امرأة سليطة اللسان،
دفعته إلى قتلها، أو هكذا تخيل، ولكن المحكمة حكمت ببراءته؛ لأن رأسه فارغ، هذه
القصة رغم عبثيتها الواضحة من البداية، وبخاصة فيما يتعلق بنصيحة الطبيب بافراغ
الرأس مما فيها، تعكس عددا من هموم الإنسان وتبعث باسقاطاتها على الحاضر على
الشعور باليأس، فالرجل يقرر أن يستفرغ رأسه من كل ما فيها، عملا بنصيحة الطبيب،
ولكن يكتشف سخافته وسخافة العالم من حوله، وكم العبث الذي يملأ حياته وحيوات
الآخرين، فيتسلل ليلا، بعد أن تخلد زوجته إلى النوم، ويخرج ليستنشق رائحة البكور،
ويمضي يومه في الفراغ بعيدا عن الضوضاء، إلا أن زوجته تظن به الظنون، فلا يتردد في
اسكاتها للأبد: "كان كلامها حادا، يدخل إلى الرأسي فيدوي في أرجائه بقوة
فيحدث صدى عنيفا يهز كياني كله، ويشعرني بصداع شديد.. شديد جدا" (ص33).
ويتبنى الزوج
المخلوع في قصة: "عباءة الملك" موقف هذا الزوج المقهور، رغم شعوره هو
نفسه بلون من ألوان القهر، بلغ حد "ترتيب الغرف، و.. غسل المواعين.. وحمل
الرضيع، وتعقيم الببرونة والذهاب إلى السوق" (ص82)، وهو "الملك" ابن
العمدة الذي تربى في بيئة ينحني له فيها أهلها، قبل ارتباطه ببنت المدينة التي أتت
على كرامته، وعندما اعترض، استخدمت حقها الشرعي وخلعته.
إن عذابات النفس
تبلغ مداها في قصة: "آخر زمن" ذات العنوان الذي يقطر سخرية ممزوجة
بمرارة، حيث تدفع الزوج التعس إلى حالة من التدني الخلقي، تجعله على استعداد لقبول
وضع مهين للرجل الشرقي، فها هو الزوج الذي وصل به اليأس في عدم انجاب الولد بعد
اربع بنات، يحاول أن يجد وسيلة تعطيه وزوجته ولدا، حتى لو كانت تتمثل في رجل آخر،
بل صديق، فهو لا يكترث مادامت أن زوجته سوف تنجب له الولد، ويصل به الأمر إلى
ترتيب اللقاء بين الصديق وزوجته، في بيته وفي غرفة نومه، ولكن الصديق الذي يصدمه
تدني الخلق ذلك، يلوذ بالفرار من ذلك الفخ اللا إنساني.
إن نادية كيلاني
قلما وظفت السخرية اللاذعة إطارا تعبيريا عن عذابات الذكر، ويتضح من خلال قصتين
على الأقل، هما: "ابنة رجل مهم"و "المحمول"
تصور القصة الأولى
حيرة وحسرة مهنس شاب ـ تقدم لخطبة ابنة رجل ثري، فطلب منه والد العروس مليون جنيه
مهرا لابنته جواهر، تعقد المفاجأة لسان المهندس الشاب، بل وتذهب بعقله عندما يكتشف
أن من أراده حما له جمع ثروته من الشحاذة، بعد التنكرـ واختار له تلك المهنة
المزرية كي يجمع المبلغ المطلوب خلال عام واحد، وكمن وقع تحت تأثير السحر وجد الشاب
نفسه يطلب أجازة من عمله، ويتوجه إلى بيت حميه، وعن تجربة معه يحدثنا قائلا:
"عاد الرجل وعدل من هيئتي.. أقصد بهدل هيئتي أكثر.. ألبسني جهازا في ساقي
فوجدتني أعرج.. وضع عصابة فوق عيني فاضطربت الأشياء أمامي وبهت لونها، نثر بعض
النتف السوداء على ذقني فالتصقت بها.. شدني بعدها من ذراعي فتبعته كالمنوم، خرجنا
من باب غير الذي دخلت منه إلى شارع آخر.. وما هي إلا خطوات والرجل يستند على ذراعي
وأنا الأعرج والأعمش أجره بوهن" (ص90)
أما قصة: "المحمول"
فتصور حيرة الموظف المسكين، الذي يدرك أن عليه أن يشتري ذلك الاختراع الجديد، وإلا
شذ عن أقرانه وعن زملائه في العمل، بل وعن الناس في الشارع، فاشتراه رغما عنه بعد
أن استسلم لرغبة الجماعه، وليس عن قناعة من جانبه بضرورته، فيتعرض لموقف حرج
بنهاية القصة، عندما يرد على رنينه بحركة آلية وهو يتبول في مرحاض عام، فيسقط منه
وقد جاء صوت زوجته سائلا: "حسين أين أنت.. ماذا تفعل عندك" (ص76).
لعل كل هذه القصص
التي تمثل أكثر من ثلثي قصص المجموعة "إحراج" فهي أربعة عشر من أصل اثنين وعشرين قصة، تبرهن
على أن هم القاصة الأساسي عذابات النفس البشرية، هذا من ناحية المضمون، أما من
ناحية الشكل، فنادية كيلاني لا تقف عند شكل بعينه كما سبق الذكر في بداية هذا
الفصل، إذ أنها تجرب بأشكال قصصها طوال الوقت فإلى جانب القصة التقليدية، هناك
القصة محكمة الصنع، وهناك القصة الفانتازية، وتلك العبثية، وهناك القصة الاعترافية
الكشفية، وهناك القصة الساخرة ذات الحس الفكه، وهناك أخيرا القصة الدائرية وتلك
الحوارية، وكلها أشكال فنية اختارتها القاصة بعناية، أو ربما فرضتها عليها طبيعة
الموضوع المعالج.
غير أن الأمر اللافت
للنظر أن نادية كيلاني بعد أن تمرست في استكشاف جماليات تلك الأشكال، صارت لديها
القدرة على تحديد نقطة الولوج في عالم القصة، عبر اللقطة، ونقطة الخروج منها، عبر
المفاجأة المقصودة، والمحسوبة، والمسبوكة والتي تأتي القاريء بالدهشة، رغم
اختزالها، وتكثيفها، وهدوئها، فترسم دوما نهاية استفهامية، استنكارية تهكمية،
تقابل حالات التخبط التي تنطوي عليها حيوات شخوصها، رجالا كانوا أم نساء.