الخميس، 13 ديسمبر 2012

مى زيادة دراسة بقلم الأديبة والكاتبة الصحفية نادية كيلانى



مى زيادة

دراسة بقلم الأديبة والكاتبة الصحفية نادية كيلانى
هى مارى إلياس زاخور زياد، ولدت فى11فبراير 1886م بالناصرة بفلسطين وهى موطن أمها السيدة نزهة معمر فلسطينية أرثوذكسية، تزوجت من إلياس زاخور زياد اللبنانى الذى كان يعمل بالتدريس بفلسطين وقتها.
  دخلت وهي في حوالي الخامسة أو السادسة مدرسة الراهبات اليوسفيات بالناصرة في فلسطين حتى سن الثالثة عشر ثم انتقلت إلى مدرسة الراهبات العذراوات في بيروت لبنان حتى أتمت دراستها.
 
هاجرت أسرتها إلى مصر عام  وعمرها20سنة عندما أتيحت للأب فرصة العمل بالتدريس فى إحدى مدارس مصر.

كيف أصبحت أديبة
:

كانت تميل للعزلة منذ صغرها فتكتب مذكراتها باسم عائدة، ولما اشتغل والدها بالتدريس فى إحدى مدارس القاهرة وفي الوقت نفسه قام بالتدريس لفتاة من بنات العائلات الكبيرة. 
ومن خلال الأحاديث المتناثرة بين والد الفتاة الثرى المدرس عرف أنه يهوى الأدب والصحافة، فحقق له الأمنية وساعده في اصدار جريدة المحروسة، فبدأت حياة مي الأدبية.
 وهذا ما ساعدها على نمو موهبتها فنشأتها في بيئة صحفية أبوها يصدر جريدة، بالاضافة إلى طبيعتها اللبنانية أن تكون أكثر جرأة واقتحاما في هذه الفترة عن زميلاتها المصريات، مع ذكائها الفطرى كل هذا ساعد مي على النبوغ .
أصدرت ديوانها الأول "أزاهير حلم"  بالفرنسية باسم إيزيس كوبيا، ثم أتقنت العربية بمساعدة صديق والدها أحمد لطفى السيد والشيخ مصطفى عبد الرازق كما تعمقت في قراءة الشعر العربى، إلى جانب الفرنسية والانجليزية والألمانية، ويقال خمس لغات أو تسع لغات كانت تتكلمها.
 
بدأت تنشر بابا ثابتا في الصحف تحت عنوان "يوميات فتاة" يضم خواطرها
 اشتهرت بصالونها  الأدبى الذي كان يؤمه كبار الأدباء فىي ذلك الوقت
  فتميزت بموهبة في الخطابة.

تغير اسمها
:

  يبدو أنها كانت غير راضية عن اسمها إذ غيرته أكثر من مرة، فحتى وهى طفلة، فكانت تميل للعزلة وتكتب مذكراتها باسم عائدة.
  وقد اختارت لنفسها اسم  إيزيس كوبيا، وقعت به كتابتها الأولى باللغة الفرنسية، وإيزيس في الأسطورة رمز الوفاء والتضحية، وكوبيا كلمة لاتينية قديمة تعني زيادة.
  ومن اسمائها المستعارة: "شجية، كنار، السندبادة البحرية الأولى،  مودموزيل صهباء، خالد رأفت"
  ويفسر البعض تهيبها من الحياة العامة في البداية أو كان عيبا أن يذكر اسم المرأة فما بال أن يوقع به في الصحف ونقول لهم لماذا وهي بنت بيئة متفتحة تشجعها على التعبير.؟

 ولما بدأت تكتب باللغة العربية فقد اختارت الحرف الأول والحرف الأخير من اسمها فكان اسمها الأدبى الذى اشتهرت به  مي  فهو أخف وأقرب إلى العربية.

من مؤلفاتها
:
"أزاهير حلم""رجوع الموجة""الحب فى العذاب""ابتسامات ودموع"   "كلمات وإشارات""غاية الحياة""باحثة البادية""ظلمات وأشعة""ليالى العصفورية"

وكيف ذاع صيتها
:

  كان لا حديث للمثقفين في ذلك الوقت إلا عن اثنتين الحرب الأولى، والآنسة مى زيادة؛ وهى الأنسة اللبنانية الرقيقة الذكية المتحررة، فقد بهرت الجميع بثقافتها وكتاباتها.
  فهي نجمة الوسط الثقافي التي وقع في غرامها كل من عرفها، ولا تزال هى أشهر أديبة في القرن العشرين.
 وصفها الشيخ "مصطفى عبد الرازق" بأنها رائدة النهضة النسوية في الشرق، وقال "أحمد حسن الزيات"  صاحب الرسالة. 
 "تشارك فى كل علم وتفيض فىي كل حديث وتختصر للجليس سعادة العمر كله في لفتة أو لمحة أو ابتسامة"  

 والحقيقة أن رسائل مىي التي تبادلتها مع الكثيرين جزءا متمما لأعمالها فقد كانت تكتب رسائلها بنفس العناية التي تكتب بها أدبها، وكانت حريصة على أن ترد على كل ما تتلقاه من رسائل أو ما يهدي إليها من كتب.
 وكان يرد بعض الكتاب "لطفى جمعة" على رسائل مي بمقالات منشورة يشرك القراء فيما يختلفان فيه من وجهات نظر، وقيل إن كثير من رسائلها مزقت وأحرقت حفظا لأسرارها كامرأة.

مى والعقاد
:
  يقال أن العقاد طلب ودها وصدته وحينما كان يتجاوز حدود الصداقة تنبهه، ويقول مؤرخو الفترة كانت مي حينما لا تستطيع أن تمنع العقاد حين تغلبه العاطفة ويعبر لها تتجاهله وكأنها لم تسمع ولم ترى.
 
الحقيقة في رأيي أنها أحبت العقاد وأحبها وبينهما رسائل لا تقل عن رسائلها إلى جبران، وفي ذات الوقت كان العقاد يعلم برسائلها إلى جبران ويغار منه، فكان صالونها الأدبي يجمعها بالرجال حيث تتحدث إليهم في شئون الأدب، وتعزف لهم الموسيقى وتقوم بالغناء، وكان من جراء ذلك أن تعلق بها معظم الذين ترددوا عليها، وأفصحوا لها عن غرامهم بالتلميح أو التصريح في رسائلهم وأشعارهم.
وكم سمع رواد صالونها أشعار "ولي الدين يكن" فيها وهى تلقيها جهرا ولا تجد حرجا لأن "ولي الدين" رجل مريض انهك الربو قواه ويكبرها سنا، في حين تخفي أشعار العقاد فيها لأن العقاد شاب وقد تحوم حولهما الشبهات، فهي تعرف ماذا تظهر وماذا تخبيء.

  العقاد أقرب إليها في السن بينهما ست سنوات، وكان حبهما عذريا شديد التكتم والحياء، وكتب فيها عشرات القصائد ومنها قصيدة أرسلها لها وهي في برلين أعجبت بها فكتبت له تقول:
  إننى لا أستطيع أن أصف لك شعوري حين قرأت هذه القصيدة، وحسبي أن أقول لك إن ما تشعر به نحوي هو نفس ما شعرت به نحوك منذ أول رسالة كتبتها إليك وأنت في بلدتك التاريخية أسوان، بل إنني خشيت أن أفاتحك بشعوري نحوك منذ زمن بعيد منذ أول مرة رأيتك فيها بدار المحروسة، إن الحياء منعني وقد ظننت أن اختلاطىي بالزملاء يثير حمية الغضب عندك، والآن عرفت شعورك وعرفت لماذا لا تميل إلى جبران خليل جبران.

  وكان العقاد قد انتقد قصيدة المواكب لجبران في جريدة الأهالي.

  ومى تقلل من عمق علاقتها بجبران فتقول: 
  لا تحسب أنني أتهمك بالغيرة من جبران فإنه في نيويورك لم يرني ولعله لن يراني، كما أني لم أره إلا تلك الصور التي تنشرها الصحف، سأعود قريبا إلى مصر وستضمنا زيارات وجلسات أفضي فيها لك بما تدخره نفسي، ويضمه وجداني فعندي أشياء كثيرة سأقولها لك في خلوة من خلوات مصر الجديدة.

  ولم يعد العقاد يذهب إلى مي يوم الثلاثاء، بل كان لقاؤهما يوم الأحد ويذهبان معا لمشاهدة أفلام الفانوس السحري.

  واستطاع الشاعر "كامل الشناوي" أن يأخذ اعترافا من العقاد بأن اسم هند الذى ورد في أكثر من مقطوعة شعرية هو اسم مستعار لمي كما اعترف أن مي هى البطلة المنافسة لسارة، وقد وصفها في الرواية بأن حولها نهرا يمنع من الوصول إليها.

وكتب فيها شعرا كثيرا، وكانت في روما فكتب يقول:

آل روما لكمو مني الولاء   =  وثناء عاطر بعد ثناء
في حماكم كعبة ترمقها   =  مهج منا وآتاق ظماء
أرقب البدر إذا الليل سجا   =  فلنا فيه على البعد لقاء

  وفى قصيدة أخرى لمي كتب يقول: 
ولد الحب لنا عاش الوليد
وحماه الله من كيد الحسود

  وقصيدة بعنوان موت الحب يقول فيها: 
ولد الحب لنا، وافرحتاه
وقضى في مهده، واأسفاه

  العقاد يرثى مي: 
شيم غرٌّ رضيات عذاب  =  وحجى ينفذ بالرأى الصواب
وذكاء ألمعى كالشهاب =   وجمال قدسي لا يعاب
كل هذا في التراب    =    آه من هــذا التــــراب

أشهر من وقع فى غرامها
:
  أنطون الجميل 
وقع في غرامها وهو من كبار كتاب عصره، وكتب لها يقول:
 
"يلذ لى يا مي أن أخاطبك باسمك مجردا من الوصف ومن اللقب، لأن كل وصف ضئيل إذا ما قيس بصفاتك، وكل لقب قليل إذا ما اقترن باسمك فاسم مي أصبح في هذا الجيل يرادف حسن البيان وفصاحة اللسان، ونبوغ العقل، وكبر القلب"

وكتب 
مىي وما مي سوى قبس =  للحسن فوق نوره الشهبا
إني حين أحيي فيك نابغة  =  حسد الأعاجم عندها العربا

كتب فيها أمير الشعراء: 
إذا نطقت صبا عقلي إليها
وإن بسمت إلي صبا جناني

مي وجبران
:

  يجمع النقاد أن مي لم تحب إلا رجلا واحدا رغم أنها لم تره أبدا، والخطابات هي رسول الغرام وهو الشاعر جبران خليل جبران.
جبران في نيويورك وهي في القاهرة تكتب له قائلة:

أريدك أن تساعدني وتحميني وتبعد عني الأذى، ليس بالروح فقط بل بالجسد أيضا، أنت الغريب الذي كنت لي أبا وأخا ورفيقا وصديقا، وكنت أنا لك أما وأختا ورفيقة وصديقة.

وكتبت مرة تستعطفه أن يأتي إلى القاهرة لتراه:
"تعالى يا جبران وزرنا في هذه المدينة، فلماذا لا تأتي وأنت فتى هذه البلاد التي تناديك.
تعال يا صديقي، تعال فالحياة قصيرة وسهرة على النيل توازى عمرا حافلا بالمجد والثروة والحب"
 كلامها إليه متحفظا، وكذلك كان كلامه إليها.
 "يا مي يا صديقتي ما أجمل هذه الصورة، وما أحلى هذه البنية، وما أوضح دلائل الذكاء في عينيها، إن في عيني جوعا وعطشا إلى الصور أمثال هذه، أعود وأقول إني أحب هذه الصورة وسوف أحصل على صورة أخرى أحدث عهدا إن شاء الله.
  وحتى حين قالت: 
 جبران، ما معنى هذا الذى أكتبه؟ إني لا أعرف ماذا أعني به، ولكنني أعرف أنك محبوبي وأني أخاف الحب، كيف أجسر على الافضاء إليك بهذا وكيف أفرط فيه.؟ الحمد لله أنني أكتبه على الورق ولا أتلفظ به، لأنك لو كنت الآن حاضرا بالجسد لهربت خجلا من هذا الكلام، ولاختفيت زمنا طويلا فما أدعك تراني إلا بعد أن تنسى.
وهو يقول لها
  الكلمة الحلوة التي جاءتني منك كانت أحب لديَّ وأثمن عندي من كل ما يستطيع الناس جميعهم أن يفعلوا أمامي، الله يعلم ذلك وقلبك يعلم.
 وبعد التعييد جلسنا أنا وأنت بعيدين تحدثنا طويلا، وقلنا مالا يقوله سوى الحنين ثم حدقنا بنجم بعيد وسكتنا ثم عدنا إلى الكلام فتحدثنا حتى الفجر والله يرعاك ويحرسك يا مريم، والله يسكب أنواره عليك والله يحفظك لمحبيك.
بدأت مراسلاتها لجبران بعد صدور كتاب "الأجنحة المتكسرة" عام    م   كتبت تبدى إعجابها بقصته وتعلن سخطها على التقاليد البالية التى تلف المرأة بحجابها الثقيل.
 كان جبران طوال سنوات مراسلتها يمدها بكتبه وأرائه في الحياة والفن ويؤثرها بكل ما تحبه 
  عشرون عاما دون أن تراه مي أو يراها جبران.
يقول الاستاذ "طاهر الطناحي" 
  وواضح من رسائل مي وجبران أن كلا منهما يهوى الآخر على مهل، فيبعث أحدهما برسالة وينتظر من الآخر الرد عليها، وكأن الحالة بينهما تسلية ظريفة، وتقوم بدور الفضفضة عما ران على نفسيهما من آلام الحياة وإوجاعها.
  وما جرى بينهما لا يتجاوز حد الكلام والسلام والشوق والوئام دون أن يحاول أي منهما أن يسعى للأخر، فهي تذهب إلى ألمانيا وإيطاليا، ولا تذهب إلى نيويورك، وهي تدعوه لزيارتها في القاهرة ودعته إلى زيارتها في أوربا فلم يفعل فجبران يقول لا تقيدوا الحب بالقيود.
هو حب من نوع خاص، وكأن عدم اللقاء متعمدا من الطرفين الحب لذاته  مثل حب العذريين العرب في عصر الدولة الأموية.
  ورغم أن العلاقة كان يصيبها الفتور أحيانا، وسادها التوتر الخلاق بين كاتبين كبيرين.
  يقول جبران لقد سلبتني راحة قلبي ولولا تصلبي وعنادي لسلبتني إيماني، من الغريب أن يكون أحب الناس إلينا أقدرهم على تشويش حياتنا، ظلت علاقة جبران ومي سرا لا يعلمه أحد حتى توفى جبران، عندها اعترفت مي في إحدى مقالاتها بوجود مراسلات بينهما، ونشرت هذه الرسائل عام     م في كتاب بعنوان "الشعلة الزرقاء"
 ومن الرسائل التى بعث بها جبران رسالة يخبرها فيها بأنه رأى حلما أزعجه يتعلق بمصير مي يقول:
 مي يا ماري ياصديقتي استيقظت الساعة من حلم غريب ولقد سمعتك تقولين لي في الحلم كلمات حلوة ولكن بلهجة موجعة، والأمر الذي أزعجني في هذا الحلم هو أنني رأيت في جبهتك جرحا صغيرا يقطر دما. 
 والغريب أن "ميخائل نعيمة" الملازم لجبران عندما كتب سيرة حياته نجدها قد خلت تماما من أي إشارة إلى مي أو إلى رسائلها، وإن كانت قد عمرت بأخبار مغامرات جبران العاطفية برغم إصابته بالسل هو وكل أشقائه خاصة مع ماري هسكل التي كانت تنفق عليه وأوفدته على نفقتها الخاصة لدراسة الفن في باريس.

الإنهيارات العصبية المتتالية
:

  لعل الرومانسية المفرطة وراء مأساتها فهي تقول ما أتعس القلوب الشديدة التأثر، يمر النسيم العليل على الأزهار الناضرة فتتشقق بوطئه جلابيبها، وتنثر وريقاتها، كذلك تكفي ملامسة الألم النفس المتفردة ليثير منها الأشجان ويستقطرمن محاجرها العبرات.
  فمن خواطرها مقال بعنوان أين وطني تقول فيه:

  لقد ولدت فى بلد، وأبى من بلد، وأمى من بلد، وسكني فىي بلد وأشباح نفسي تتنقل من بلد إلى بلد فلأي هذه البلدان أنتمي.؟ وعن أي هذه البلدان أدافع.؟ يمضي الموتى تاركين للأحداث وراثات حسية ومعنوية ينعمون بها، وشرفا قوميا يعززونه، وتقاليد يحافظون عليها، أما أنا فلم يبق لي من آثار موتاي سوى الأثقال المعلقة في يدي وعنقي، فلماذا قدر علي أن أكون ابنة وطن تنقصه شروط الوطنية فأُمسي تلك التي لا وطن لها.؟ 
  وكما سبق أنها كانت تميل للعزلة منذ صغرها فتكتب مذكراتها باسم عائدة.
  أصيبت بوسواس أن هناك من يتعقبها ويحاول أن وضع السم لها في الطعام.
 سافرت إلى لبنان لتعيش مع ابن عمها ميشيل.
ويقال إن أهلها أخذوها عنوة من مصر ليذهبوا بها إلى لبنان لتكون فريسة سهلة، وهناك دفعوا بها إلى العصفورية لتعالج من متاعبها النفسية والعقلية
حادثة النصب التى تعرضت لها على يد ابن عمها جوزيف فقد كتبت ترجوه أن يحضر إليها في القاهرة ليساعدها في إدارة شئونها وكتبت له توكيلا ليتصرف كما يشاء وطمع في ثروتها واستطاع أن يثبت جنونها ويدخلها مستشفى الأمراض العقلية بلبنان وظلت فيها لمدة عام، ذاقت فيها العذاب وافتضح أمر ابن العم وخطته الشيطانية، وخرجت مي من المستشفى لتقضي عاما آخر في مستشفى عام تعالج من  الضعف والهزال، وبعد عودتها إلى القاهرة أصابها الوسواس.
  خرجت من المستشفى بسبب الحملة الصحفية التي أثيرت في مصر وفي لبنان. 
وبعد فترة قصيرة من خروجها من المستشفى سافرت سرا إلى الفاتيكان وطلبت حماية البابا ممن يريدون قتلها بالسم. 
  أقامت في ضيافة البابا ما يزيد على الشهرين ثم عادت إلى القاهرة حيث توفيت بعدها بقليل.
  تعرضت مي لثلاث صدمات نفسية متوالية جعلتها تدخل في حالة اكتئاب شديد.    
وفاة والدها عام 1929م  
وفاة جبران عام  1931م 
ثم وفاة والدتها عام 1932م


الحجر على ممتلكاتها
:

  بعد عودة مي إلى مصر بعد خروجها من المستشفيات العصبية في لبنان والحجر على ممتلكاتها عز عليها جحود بعض أصدقائها فقاطعتهم جميعا وأنشأت علاقات مع غيرهم من الذين لم يصدقوا أنها مجنونة، ومنهم "مصطفى مرعي" بك المحامي وزوجته.
 فقد كان لها القدرة على إنشاء العلاقات الانسانية والصدقات الحميمة بمبادرة منها في معظم الأحيان.
  ورغب مصطفى بك في انقاذ مي ورفع الحجرعنها فقدم إليها أوراقا وأقنعها بالتوقيع عليها لمصلحتها وكانت توكيلا رسميا لإقامة دعوى لرفع الحجرعن أصولها المادية، وخشى مرعىي بك أن يطول أمد القضية، ما بين التقارير الطبية والفحص عند خبير أو ارسالها هي نفسها إلى الأطباء لتحديد مدى تحكمها في عقلها ووقع ذلك النفسي عليها، فاتصل بمدير قسم الخدمة العامة بالجامعة الأمريكية وعرض عليه أن يدعو مي لإلقاء محاضرة ضمن برنامج المحاضرات السنوي، فرحب بالفكرة، ورحبت مي بتلبية الدعوة، ثم أوعز إليه بأن يوجه دعوة إلى القاضي الذى ينظر القضية ليسمع بنفسه المحاضرة، ولبى القاضي.
 كان عنوان المحاضرة "عش فى خطر" وتقول فيها ما معناه أن الدنيا كلها خطر، وتاريخها حافل بالأخطار، لذا يجب على المرء ألا يخشى الخطر، فكم عانى الانسان الأول وبذل من البسالة حتى يركب الحمار لأول مرة، وهو الآن يركب القطار والسيارة والباخرة فالطائرة دون أن يفكر في أي خطر. 
أعجب الحضور بسحر كلامها وتملكهم الشعور بطريقتها المدهشة وهى تضرب الأمثال من صميم الحياة على مقاومة الخطر وتدرجه حتى أصبح شيئا عاديا.
  المحاضرة كانت فى القاعة الشرقية للجامعة الأمريكية، وكان القاضي أكثر المتتبعين للمحاضرة وعند انصرافه قال أهذه مجنونة.؟ إنها أعقل مني، وفي أول جلسة تالية قضى بإلغاء الحجر، ولكنها لم تهنأ به طويلا وماتت في أكتوبر من ذات العام.
  توفيت فى 17أكتوبر سنة 1941بعد مرض هد أعصابها واضطراب في قواها العقلية وعمرها    سنة
****

أشهر الصالونات
:

  بدأت في إقامة صالونها الأدبي الفكري كل ثلاثاء بمنزلها بشارع المغربي عدلي حاليا، مكانه الآن محطة بنزين.
  ثم انتقل هذا الصالون إلى الطابق الذي قدمته لها جربدة الأهرام واستمر حتى نهاية الثلاثينات   
  اشتهر صالون مي الذي كان يؤمه الاعلام من المفكرين فمنهم الدارويني شبلى شميل، والعلماني يعقوب صروف، ورجال الدين الشيخ رشيد رضا صاحب مجلة المنار، والشيخ مصطفى عبد الرازق، ومنهم أصحاب الرتب وأصحاب الجاه، ومنهم من لا عهد لهم بحياة الصالونات وطقوسها إبراهيم عبد القادر المازنى، وكان طه والعقاد والرافعى وشوقى وغيرهم.
  فلما قسا طه حسين على الشاعر محمود أبى الوفا، وقال عن شعره فى ديوان  أنفاس محترقة أنه نظم خال من الشاعرية وانتقد فؤاد صروف كاتب المقدمة لقوله: إن شاعرية الشاعر اجتمع فيها التفكير عميقا صافيا، والخيال جريئا وثابا، والشعور متأججا صادقا في ألفاظ كأنها في معانيها ومبانيها وجرسها ومواقعها آيات التنزيل وهذه سماحة القريحة، عز على مي أن يعامل أبو الوفا وهو بسيط الحال مبتور الساق بهذه القسوة فدعت كل من طه حسين، وفؤاد صروف إلى بيتها، فوصل طه حسين مبكرا وكان شديد الضيق بسبب فصله من الجامعة، فجلس وأخذ يتأفف في نقمة وأرادت أن تسري عنه فرددت على مسامعه قول الشاعر:
أحـب أضحـك للدنـيا فيمنعـني    
أن عاقبتني على بعض ابتساماتي

  فسألها لمن هذا الشعر فلم يعرض لي من قبل، فقالت لواحد من الشعراء إنما نحفظ أشعارهم وننسى اسماءهم  فألح عليها في معرفة قائل هذا البيت الجميل الذي وقع في نفسه موقعا طيبا  فقالت إنه لمحمود أبي الوفا،  فطلب منها كتمان الأمر لاسيما على أبي الوفا  فقالت  بشرط ألا أكتمه عن فؤاد صروف، ودق الباب ودخل صروف وأخذت مي تروي له ما وقع مستأذنة طه حسين.
 المساجلات والمناقشات التي كانت تجري فيه وكانت مي تديرها باقتدار لم تسجل ولا اهتمت صحف ذلك العهد بوصف ما كان يدور فيها.
 فالصالون لم تكن الغاية منه دعائية وإنما كان منتدى لمناقشة قضايا الأدب والفكر والعلم في جو حميم  بسبب أسلوبها في إدارة الحوار.

  لهذا قال طه حسين: 
 إن الأدب العربي قد انتفع كثيرا بحياة مي، وبعد رحيلها بعشر سنوات حين بدأ يكتب الجزء الثالث من الأيام أفصح عن تأثير مي الخطابي بما لا بيان بعده.

  وقال سلامة موسى
  في مي كل شيء كبير جدا من عمق الإحساس وبساطته، فهي تفهم بنبوغها عقلية الرجال كما تفهم بطبيعتها عقلية النساء.

  وصفتها السيدة هدى شعراوي:
  كانت كل حاسة من حواسها أو جارحة من جوارحها تنم عن ذلك الذكاء فعيناها اللامعتان وتعبيرها الحار ولطف إشارتها، وحسن حديثها، كل ذلك ينم عن ذكائها كما ينم الدخان عن المسك.

  وصفها أحد الأدباء
  أن مي في صورتها كانت مثل نغم ميلودي منسجم كل لحن فيه على حده يجود بصوت، وفي ائتلافه نغم ملائكي واحد، كذلك كانت هيئة مي وملامحها، فعيناها تحيران بما فيها من شعاع وأنفها الأقنىي الذي يمسك بعصا ناظم الجوقة يؤلف قسمات وجهها الذى يحتل فيه الفم الوردي عطر أنوثتها، وبسمة فنها.

  وصفها كامل الشناوى: 
 لم تكن قصيرة، ولم تكن طويلة، قوامها نحيلا يريد أن يمتليء، سمينا يريد أن ينحل، ألهذا الحد هي شيء محير.

 وصفتها هدى شعراوي في تأبينها:
 «كانت مي المثل الأعلى للفتاة الشرقية الراقية المثقفة».

  وصفت نفسها:
  فى رسالة لإحدى صديقاتها قالت: أنا فتاة سمراء في لون البن أو التمر هندي كما يقول الشعراء، أو كالمسك كما يقول متيم العامرية.

****

افتتن بها الأعلام
:
  استطاعت أن تفتن أعلام عصرها رغم أنها عادية الجمال لأن وراء ذلك ذكاء نادرا، واطلاعا واسعا يفرض احترامها، والرسائل المتبادلة بينها وبين عدد كبير منهم في ذات الوقت كانت تتسم بالتهذيب، والتحفظ.

  الشاعر اسماعيل صبرى:
  كان مهذبا مصقولا وأيضا يكبرها بثلاثين سنة ولا يلقاها إلا وينحني ويقبل يدها ولم يخف هواه أو غيرته عليها، وحدث وأن كان مريضا ويخشى أن يأتي يوم الثلاثاء قبل أن يبرأ من مرضه ولم يتمكن من رؤيتها فأنشأ يقول:
 
روحى على بعض دور الحى هائمة = تطاميء الطير تواق إلى الماء
إن لم أمتع بمي ناظري غدا      =    أنكرت اسمك يا يوم الثلاثاء

وكتب فيها ولى الدين يكن:

كل شيء يا مي عندك غال = غير إني وحدي لديك رخيص
تمســين ناسيـة، وأمسى ذاكـرا
عجبا   أشاعرة، تهاجر شاعرا

  يقول عنها نقولا يوسف بعد عشرين سنة من وفاتها: 
 كانت مي كما عرفناها في رونق الشباب والمجد سيدة أنيقة في الملبس ساحرة الأنوثة خفيفة الروح، غضة بضة شرقية السمات سوداء العينين والشعر، ترسل شعرها الفاحم الناعم على ظهرها ثم قصته على أسلوب عصرى، يشع من عينيها ذكاء نادر وحزن مكبوت.

  يقول عباس محمود العقاد: 
  لقد وهبت ملكة الحديث في طلاوة ورشاقة وجلاء ووهبت ما هو أدل على القدرة من ملكة الحديث وهو ملكة التوجيه وإدارة الحديث بين مجلس المختلفين فى «الرأى والمزاج والثقافة والمقال فإذا دار الحديث بينهم جعلته مي على سنة المساواة والكرامة، وأفسحت المجال للرأي القائل وللرأي إلى ينقضه أو يهدمه، ولم يشعر أحد بتوجيه الكلام منها وتلك غاية البراعة في هذا المقام.

الرافعى حالة خاصة
:
  مصطفى صادق الرافعى استولى عليه وهم كبير أن مي تحبه ويروي عنه تلميذه الشيخ محمود أبو ريه أنه كان معه في طنطا وجاءت جريدة الأهرام، وفيها مقال للأنسة مي فقرأه الرافعي بشغف وأشار على عبارة وقال هذه الكلمة العابرة لم تكن في الأصل وإنما وضعت هنا كأنها رسالة لي منها ولكنها تتحرج من إبداء حبه للناس، ويضيف الشيخ أبو ريه وقد ذكر الرافعي لي أنه استشار السيدة الكريمة زوجته في حبه لمي حتى لا يمس بهذا الحب الطاهر أمانة الزوجة الوثيقة.
أما جنون الحب في رسائل الرافعى وكتبه فحالة نفسية خاصة لم تتعد الصفحات.
  والرافعى كاتبا وشاعرا عظيما ولكن احتمال وقوع مي في هواه مستبعد جدا لأنه كان يعمل في وظيفة متواضعة، كاتب محكمة طنطا يتقاضى حفنة من الجنيهات فلما جاءته علاوة خمسون قرشا كاد يجن فرحا  ثم إن الرفعي كان أصم حتى أنه كان يتعامل بالورق فكان إذا ما زار فؤاد صروف وهو رئيس تحرير المقتطف بعد عمه يعقوب صروف كان يتبادل الحديث معه بالورقة والقلم فيدون الرافعي كلامه على وريقة ويكتب له صروف الرد على وريقة أخرى لأن صممه كان مطبقا وفوق هذا كله أكبر منها بثلاثين سنة.
ومع توهمه أن مي تحبه كان يغار منها لا عليها لأن الدكتور يعقوب صروف يقدم مقالات مي على مقالاته في المقتطف، ولما فاتح المحرر أوضح له أن ترتيب المقالات بزمن ورودها.
ولما فرغ الرافعي من تأليف كتابه "أوراق الورد" لمناجاة مي وصف الكتاب بأنه "كتاب الشيطانة".

دفاعها عن المرأة
:
  ورغم الرومانسية كانت إحدى المناضلات من أجل حرية المرأة وتعليمها ومساوتها بالرجل فىي عصر كان تعليم المرأة فيه يعد معيبة، وكانت تدخل في مناقشات فكرية وقضايا أدبية تناطح فيها كبار مفكري عصرها، ولعل هذا ما جعلها أعجوبة عصرها.

أقوالها المبكرة
:
 لا أدّعى أن المرأة ملك، ولا أقول أن الرجل شيطان كلا الجنسين جامع لشتات الفضائل المختلفة، والنقائص المتنوعة، وما الغرض من التربية إلا تقليل الشر وإكثار الخير، فكلما اتسعت وظهرت عوامل الخير في النفس انكمشت واحتجبت عوامل الشر وهي الشوائب.
 وما زالت هي الأديبة العربية الأولى هنا وهناك برغم ظهور عدد كبير من الأديبات بعدها، وما زالت القيمة الفكرية لأدبها أعظم من كل ما جاء بعده من أدب النساء العربيات، كانت وما زالت أكبر كاتبة في الأدب العربى كله.  

لماذا لم تتزوج
:
 ليس أفضل من كلامها فقد أفضت مي نفسها إلى "محمد لطفى جمعة" في مذكراته التي نشرها ابنه ما يفسر إعراضها عن التجاوب مع عبارات الحب ، فقد روى محمد لطفى جمعة إنها أسرت إليه بقولها:  
لا تنس تأثير البيئة والتربية التي تنشأ فيها المرأة أو الفتاة منا فقد دخلت في حوالي الخامسة أو السادسة مدرسة الراهبات اليوسفيات بالناصرة فى فلسطين حتى سن الثالثة عشر ثم انتقلت إلى مدرسة الراهبات العذراوات فى بيروت لبنان حتى أنهت دراستها.
وشدتنى حياة الراهبات فى هاتين المدرستين، وفي الأديرة التي زرتها في فلسطين ولبنان، لذلك تجدني وأنا وحيدة أبوي وقد أوشكت على الثلاثين عازفة عن الزواج وقد تقدم لخطبتىي كثيرون، ويقول لطفي جمعة إنه تغلغل مع الأنسة في نفسها فلم تخف عنه أدق أسرارها.
والخلاصة أنها تنظر إلى الفعل الجنسي وتعتبره قذارة مادية وهي شديدة الحساسية للجمال.
بالاضافة إلي إنها لم تكن تكف عن القراءة في الكتب المقدسة كما لم تكن تتوانى عن الإطلاع على الكتب الفكرية والثقافية.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق