شاعرة مبدعة متألقة
في ديوان "بين الغيوم والقمر"
دراسة
وتقديم الشاعر العربي السوري: عدنان برازي.
أولا أرحب بديوان
شعر جديد لا اسميه شعرا أنثويا رغم أن الشاعرة أنثى، وأنا أجل الأنثى، لأنها نبع
الحنان في زمن القسوة، ولأنها حصن الأمان في عصر التوحش والعدوان.. ولكنني أرحب
بها في عالم الإبداع الشعري، وهي شاعرة مرموقة ومُجيدة وذات نفس طويل ومتعدد السبل
والاتجاهات، يؤكد لك ذلك من مقدمته حيث خصته بفصول أربعة بعد الإهداء إلى مواسم
–وهنا تنفرد الشاعرة بذلك- فمواسمها للدار والقلب والعقيدة –الدين- وللهموم.. وما
أكثر الهموم في هذا العصر.
وكذلك لابد لي أن
أقف متأملا عنوان الديوان الغريب، ولا غريب إلا الشيطان، والمتأرجح بين القمر
المضيء الجميل والذي نشبهه نحن الشعراء بالجمال الأنثوي.. وبين الغيوم التي تحجب
نوره عنا والتي نشبهها بالجفاء والقلوب السوداء بدنيا الحب والحياة لأن الحياة هي
حب.. والله محبة.
وفعلا إن حياتنا
تدور وتتنقل بين القمر المحبوب وبين الغيوم السوداء المكروهة ولكن يبقى الأمل الذي
يقوي إرادتنا ويمنحنا قوة نستمدها من إيماننا وثقتنا بأنفسنا في الصراع المستمر
للوصول إلى بر الآمان وواحة الحب والحنان.
ولندخل في هذا
الديوان الأثير، ونقلب صفحاته الزاخرة والوافرة بنبض قصائد جميلة هي صدى لنبضات
قلب صادقة، بدءا من قصيدة "رسول الحق" التي جعلت قافيتها الهاء الساكنة
بعد الفاء المتحركة وهي صعبة ولكنها جميلة تأتي من شاعرة تمتلك مفردات كثيرة ولها
معجم شعري جيد، تقول في مطلعها:
رَسُولُ الحَقِّ بِالْبُشْرَى أَتَانَا = يُعِزُّ
الْـخَلْقَ بِالإِسْلامِ زُلْفَهْ
وَيُهْدِي مِنْ عَطَاءِ اللهِ نُورًا = يَزِيدُ العَبْدَ
إِحْسَانًا وَأُلْفَهْ
وهي قصيدة رائعة استوقفني فيها ذكر السيدة
عائشة(رضي الله عنها) بعد أن برأها الله سبحانه وتعالى من حادثة الافك فقالت:
وَيَسْتَبِقُ (الْبَرِيئَةَ) فِي فَضَــاءٍ = وَيَرْضَى
بِالْعِتَابِ وَفيهِ رَأْفَةْ
وشاعرتنا المبدعة والمؤمنة، صراعها مستمر بين
إغواء القلب وصمود العقل والإيمان لتبقى راضية وأيضا مرضية عن نفسها وسلوكها في
هذه الحياة الدنيا حيث نراها تقول:
تَمَادَى الْقَلْبُ يُغْوِينِي = فَأعْصِيهِ..
يُمَنِّينِي
أُرَاوِغُـهُ وَأُلْجِمُـهُ =
لَعَلَّ اللهَ يَهْدِينِـي
غِنَاءُ الطَّيْرِ يَأْخُذُنِي =
وَزَيْغُ العَقْلِ يُرْدِينِي
سَلامُ النَّفْسِ أَنْشُدُهُ = فِرَارُ النَّفْسِ
يَشْجِينِي
أُغَامِرُ فِي مُخَيِّلَتِي = ويأتي الصُّبْحُ
يُنْسِينِي
وتنهي شاعرتنا المبدعة بدعاء حار
وابتهال للرب الكريم قائلة:
فَيَا رَبِّي تَوَلَّ فؤا = دِيَ المَخْلُوقَ مِنْ طِينِ
وَلاَ لِلنَّفْسِ تَتْرُكْهُ = فَـتُغْــرِيهِ وَيُغْرِينِي
وشاعرتنا تعيش كأي مواطنة واعية، محبة
لوطنها ولشعبها، وتأمل دائما بشبابها في قدراتهم على الانتفاضة والتغيير في ثورة
تنحو نحو الحرية والديموقراطية، والعدالة الاجتماعية، فنراها تقول:
وَمِنْ ثَوْرَةِ الْخَضْرَاءِ تَصْحُو الضَّمَائِرُ =
وَمِصْرُ تُغِذُّ السَّيْـرَ وَهْيَ تُبَادِرُ
فَبُورِكَ شَعْبٌ عَزَّ نَفْسًا وَصَانَهَا = أَبَانَتْ
بِأَنَّ الصَّبْرَ وَعْيٌ مُثَابِرُ
وتتابع القصيدة العصماء بقولها:
فَحيُّوا شَبَابَ
الثَّغرِ، عَاشُوا لِمِصْرِنَا = فَهُمْ فِي رِبَاطٍ جَلَّلَتْهُ
الْمَآثِرُ
شَبَابٌ بِطُهْرِ الطُّهْرِ هَبُّوا
لِنَجْدَةٍ = أَجَابُوا نِدَاءَ
الْحَقِّ لبَّى يُجَاهِرُ
ويلفت النظر بأن
شاعرتنا لا تتعصب للإسلام أو للعروبة كل واحدة منهما مستقلة بل تمزج بينهما.. ولذا
تؤكد الانتماء بين العروبة والإسلام ودمج الاثنين معا وبذا تقف في وجه أي محاولة
للتفريق المدسوس، فنراها تكتب عن بغداد المحتلة فتقول:
بَغْدَادُ يَا أَرْضَ الخِلافَةِ وَالبُطُولَةِ
وَالكَرَمْ
طَمِعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ عَصِيٌّ وَاحْتَدَمْ
===
بَغْدَادُ نَجْمٌ فِي العُلا مُتَصَدِّرٌ أَحْلَى نَغَمْ
تَارِيخُهَا هَارُونُ عَصْرٍ أَوْ صَلاحُ الدِّينِ تَمّْ
حَمَلَتْ رِيَاحُ دَوِيِّهَا؛ أَوَّاهُ أَيْنَ
المُعْتَصِمْ.؟!
وكانت من الشاعرة لفتة كريمة أصابت هدفها.. لأن
صراخنا وآهاتنا لا تجد أذنا صاغية، ولا قلبا حيا من حكام العرب والمسلمين.. فتبقى
الآهات تحرقنا من قلب موجع.. لعل الله يبعث من صفوفنا قائدا فذا له قلب وضمير
ونخوة المعتصم.
ونبقى في حرقة واقعنا المزري العربي والإسلامي،
حيث تتابع شاعرتنا الكريمة تجوالها في وطننا العربي الإسلامي وتصل إلى القدس مسرى
النبوة وثاني الحرمين بعد أولى القبلتين فتقول:
يُنَادي الْقُدْسُ مُصْطَبِرًا = عُيُونًا عَاقِدًا
أمْرَا
هُنَا الزَّيْتُونُ مُنْتَهَبٌ = وشَرُّ النَّاسِ قَدْ
فَجَرَا
إلى أن تقول:
فَقُومُوا إخوتي في القُدْ = سِ هُبُّوا تَصْنَعُوا النَّصْرَا
وننتقل مع مواسم القوم فتبادرنا بقصيدة
"عطرها" بروح مرحة مداعبة حيث تقول:
أُخْتَاهُ عُودِي وَانْظُرِي مَا أَرْوَعَهْ = خَلَّفْتِ عِطْرًا فِي
أُنُوفٍ مُشْرَعَةْ
لُمِّي عُطُورَكِ وَانْثَنِي مِنْ دَرْبِنَا = يَكْفِي
الَّذِي أَحْدَثْتِهِ مِنْ زَوْبَعَةْ
يَتَشَاجَرُ الأَخَوَانِ حَوْلَكِ وَالشَّذَا =
يَتَصَوَّرَانِكِ بِالْغَرَامِ مُشَيِّعَةْ
هَذَا يَقُولُ لَقَدْ أَتَتْ لِمَوَدَّتِي = وَأَخُوهُ
يَأْبَى أَنْ يَرَاكِ مُوَدِّعَةْ
وتنتقل شاعرتنا في النجوى للعشاق وبروح رومانسية غير
خافية حيث تقول في قصيدة عاشقان:
عَلَى فَرْعِ المَحَبَّةِ رَفَّ طَيْرٌ = وَلَحْنُ
الحُبِّ يَعْزِفُهُ التَّمَاهِي
تَحَرَّكَ قَلْبُ حِبَّيْنِ فَذَابَا = وَبَوْحُ الحُبِّ
أَسْرَفَ فِي التَّبَاهِي
وتتابع شاعرتنا قصيدة عاشقان لتنهيها ببيتين
جميلين تقول فيهما:
إِذَا المَغْبُونُ أَخْطَأَ في مُرَادٍ = يَثُوبُ
لِرُشْدِهِ.. عَفْوًا إِلَهِي
وَمَنْ يَجِدِ السَّعَادَةَ في سِوَاهُ = أَضَاعَ
العُمْرَ في غَمَرَاتِ سَاهِ
ولم تنسى شاعرتنا أنها شاعرة كرمها الله بموهبة
الشعر وبرهافة المشاعر والأحاسيس وبمخزون حب للناس –كل الناس- فتشكر ربها لهذا
العطاء الخير وتذكر الشعراء بذلك حيث تقول:
يا شَاعِرًا مَا أَجْمَلَكْ = أعْطَاكَ رَبِّي منْزِلَكْ
هَذَا إِلَهُكَ مُلْهِمٌ = وَعَلَى كَثِيرٍ فَضَّلَكْ
فَاحْمِلْ أَمَانَةَ وَاهِبٍ = وَادْفَعْ بِهَا مَا
أَثْقَلَكْ
جَاهِدْ بِهَا أَعْدَاءَنَا = نَازِلْ بِهَا مَنْ نَازَلَكْ
وَاصْنَعْ بِهَا حُلْمًا طَمُو = حًا يَسْتَقِيمُ عَلَى
الْفَلَكْ
وَاسْتَرْجِعِ الحُلْمَ الَّذِي = طَالَ المَدَى
وَاسْتَنْزَلَكْ
ولو تابعنا الكتابة عن قصائد الديوان المتنوعة بين
مواسم الشعر الذي تحركت في ربوعه الشاعرة لاحتاج لوقت طويل.. وهذا ليس وقته رغم
أنني أخذت وقتا طويلا لأنني فوجئت بقدرة الشاعرة الإبداعية وتنوع أغراضها الشعرية
وتجلياتها، لذا لابد لي من التوقف مرغما لأختم هذه الرؤية لشاعرة كبيرة مبدعة
متمكنة من أدواتها الشعرية ومن مخزون مفرداتها وضخامة قاموسها الشعري وثقافتها
المتعددة.. وقبل هذا التوقف أعود معكم إلى بداية الرؤية والتعليق على اسم الديوان
الدائري الغريب بين الغيوم والقمر، النور المحبب والغيوم السوداء ذو الوجه الكئيب
حيث تحت هذا العنوان جعلت القصيدة باسلوب الحوار والأقوال وأقتطف منها:
قَالَ: الْقَمَرُ الأَحْلَى فِي عَيْنِي
وَفَتَاةٌ أَرْوَعُ مِنْ ضَوْءٍ
قَالَتْ: أَنْتَ الرَّجُلُ الأَبْهَى
مَا أَرْوَعَهُ نَجْمَا !!
قَالَ: وَكَيْفَ يُجَمِّعُنَا عُشٌّ وَالْغِرْبَانُ
تُحَوِّمْ؟!
قَالَتْ: نَنْصِبُ فَخًّا
وتتابع شاعرتنا القصيدة المتفردة والرائعة بحيث
تقول:
قَالَتْ: فَلْنَنْسَ الْحُزْنَ قَلِيلاً..
نَتَغَازَلُ
يَا ذَوْبَ السُّكَّرْ
- السُّكَّرُ فِي حَلْقِي مُرّ
وَمَرَارُ
السُّكَّرِ حَنْظَلْ
إنها قصيدة حكائية ممتعة، بأسلوب رشيق كذوب السكر،
وفق الله شاعرتنا المبدعة التي متعتنا بهذا الديوان الجميل.. ومزيدا من هذا العطاء
الجميل والإبداع الراقي متمنيا لها التوفيق والنجاح والتألق أكثر وأكثر.