الأربعاء، 1 ديسمبر 2010

نادية كيلاني في ديوانها بين الغيوم والقمر: بقلم: د. حسن فتح الباب

نادية كيلاني في ديوانها بين الغيوم والقمر
بقلم: د. حسن فتح الباب
انجبت الأمة العربية عبر تاريخها الطويل عديدا من الشواعر اللاتي أضأن مجتمعاتهن بما نظمن من قصائد يسكبن فيها رحيقا عذبا من نبع احساسهن وفيض خواطرهن. ولئن كانت هذه القصائد تمثل نزرا يسيرا بالقياس إلى ما جاء به الشعراء من قصائد، فإن مرجع ذلك إلى التقاليد الاجتماعية التي سادت طوال القرون الماضية ومازال بعضها قائما إلى الآن رغم ما حظيت به المرأة من حقوق اجتماعية وسياسية وثقافية.
وأقدم شاعرة في التاريخ العربي هى الخنساء التي عاشت في عصر الجاهلية ثم أدركت عصر النبوة فاسلمت، وظل معينها الشعري فياضا ولا سيما في رثاء أخويها صخر ومعاوية. وقد أعجب بشعرها النبي(صلى الله علية وسلم) حين وفدت إليه وأنشدت بعض قصائدها، فاستزادها قائلا: إيه يا خناس، وقد نبغ الشعراء في الجاهلية بنات عبد المطلب جد النبي عليه السلام، وقيل إنهن ست نساء.
وتعاقبت القرون فنبغت شاعرات ذكرهن المؤرخ الأدبي أبو الفرج الأصفهاني في مصنفه الشهير (الأغاني)، وأكثرهن من الجواري المغنيات. ومن أشهر الشواعر في التاريخ العربي الإسلامي ولادة بنت المستكفي الخليفة الأندلسي التي ألهمت الشاعر ابن زيدون بعض أشعاره.
وما إن بزغت شمس القرن التاسع عشر الميلادي حتى لفتت الأنظار الشاعرة عائشة التيمورية التي تنتمي إلى أسرة ذاع صيتها في العلم والأدب، وقد اشتهرت هذه الشاعرة الرائدة بقصيدتها التي مطلعها
بيد العفاف أصون عز حجابي .. وبعصمتي أسمو على أترابي
وفي الأربعينات من القرن الماضي ازدهرت الحركة الشعرية في مصر مواكبة للنهضة الثقافية التي اتسمت بها تلك المرحلة، وكانت إرهاصة بالمد الشعري منذ ثورة 1952 م فلمعت بعض أسماء النساء الشواعر مثل روحية القلِّيني، عزيزة هارون، وظل الشعر عموديا في تلك الحقبة حتى إذا أهلت تلك الثورة بل قبلها ببضع سنين انحسرت موجة الشعر التقليدي واستبدلت بها موجة الشعر الجديد الذي كان يسمى الشعر الحر، ونسميه الأن الشعر التفعيلة المختلف شكلا ومضمونا عن الشعر العمودي، وكان رواده في العراق بدر شاكر السياب، ونازك الملائكة، وفي مصر عبد الرحمن الشرقاوي الذي أبدع قصيدته الشهيرة (من أب مصري إلى الرئيس الأمريكي)
واكبت المرأة حركة الشعر التفعيلي منذ ثورة 23 يوليو فلمع اسم شاعرتين كبيرتين هما ملك عبد العزيز شريكة حياة الناقد العظيم الدكتور محمد مندور، والشاعرة وفاء وجدي التي رحلت أخيرا عن عالمنا بعد مسيرة طويلة على درب الشعر.
 كما ضمت كوكبة الشواعر بمستويات مختلفة إيمان بكري، وثريا العسيلي ونوال مهنى وهدى العجيمي وإن كانت شهرتها الاعلامية قد وقفت عقبة دون اكتمال موهبتها الشعرية.
ونظرا لنشأة قصيدة النثر وازدهارها في مختلف البلدان العربية فقد أغرت المرأة بارتياد هذا الطريق إلى جانب الرجل. ونذكر في هذا السياق على سبيل المثال لا الحصر الشاعرة سهير المصادفة لتي صدر لها ديوانان من قصيدة النثر الذي كنا نسميها الشعر المنثور، ورائده السوري محمد الماغوط رحمه الله.
وإلى جانب سهير المصادفة كثيرات من الشاعرات اللاتي وجدن أنفسهن في هذا القالب الفني، والذي لايزال يثير جدلا في الأوساط الأدبية رغم النماذج الابداعية الكثيرة التي قدمها منذ عدة عقود.
وفي رأينا أن التنوع هو سمة الحياة، فلا غرو أن تتعايش وتتجاور شتى ألوان الشعر خاصة، والأدب عامة، فالصناعة يلغى وينسخ منها القديم ليحل محله الجديد، أما الأدب والفنون فهى تتجاور وتتحاور، فما زلنا نستسيغ أشعارا من العصر الجاهلي وما تلاها في عصور ازدهار الأدب والفنون، وقد عبر ابن الرومي عن هذا التنوع بتشبيه بليغ في مرثية لابنه محمد عزاء له عن فقد ابنه فقال:
أوْلاَدُنَا مِثْلُ الجَوَارِحِ، أيُّهَا .. فَقَدْنَاهُ ، كَانَ الفَاجِعُ البَيِّنُ الفَقْدِ

لِكُلٍّ مَكَانٍ لاَ يَسِّدُ اخْتِلاَلَهُ .. مَكَانُ أخِيْهِ فِي جُزُوْعٍ وَلاَ جَلَدِ

هَلْ العِيْنِ بَعْدَ السَّمْعِ تَكْفِي مَكَانَهُ .. أمْ السَّمْعَ بَعْدَ العَيْنِ يَهْدِي كَمَا تَهْدِي

لَعَمْرِي لَقَدْ حَالَتْ بِيَ الحَالُ بَعْدَهُ .. فَيَا لَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ حَالَتْ بِهِ بَعْدِي


أحدث غصن في شجرة الابداع الشعري يتمثل هذا الغصن في الشاعرة نادية كيلاني التي أصدرت لها أخيرا مكتبة الآداب ديوانا بعنوان (بين الغيوم والقمر) ينم عن موهبة شعرية فطرية وقدرة على صياغة موضوعات ومضامين مضيئة واصرار على اثبات الذات في الحركة الشعرية المعاصرة بعد أن عرفت ككاتبة قصة بعد أن نشرت مجموعتين من القصص، ومسرحية، ورواية، وكتبا للأطفال.
 ويقع ديوان (بين الغيوم والقمر) في 131 من القطع المتوسط وقسمته إلى عدة أجزاء من حيث الموضوعات واسمتها مواسم وهى:
موسم قلبي ويتكون من 23 قصيدة ، موسم ديني من تسع قصائد، وموسم وطني من تسع قصائد أيضا، وموسم قومي من ست قصائد، وهكذا يكون عدد قصائد الديوان سبعا وأربعين قصيدة ما بين عمودية وتفعيلية، ويتبين من عنوان الديوان أن شاعرتنا تطرق عدة أبواب من حيث الاتجاه، وهى النزعة الرومانسية أو الوجدانية كما يسميها الناقد الكبير الراحل الدكتور عبد القادر القط، والنزعة الصوفية والنزعة الوطنية والنزعة القومية، وعلى الرغم من أن ديوانها (بين الغيوم والقمر) هو أول أعمالها الشعرية فقط أجادت في كثير من قصائدها وشابت قليلا منها عثرات البدايات ولا سيما في القصائد العمودية إذ تقحم بعض الألفاظ للحفاظ على الوزن والقافية.
ونستدل من تنوع أغراض الديوان على عمق ثقافة الشاعرة وسعة أفقها، فهى تجمع بين الذاتي والموضوعي، وبين الأنا والأخر، وبين الطبيعة والواقع باحساس مرهف، وهى تنفعل ولا تفتعل فالصدق هو عنوان حقيقة الشعر التى يعبر عنها هذا الديوان، في معظم نصوصه، مصداقا لقول الشاعر الأسباني فريدريكو لوركا :
(الشعر والصدق توأمان لا ينفصلان)
موسم قلبي
يسترعي نظر القاريء والناقد القصيدة الثالثة في موسم قلبي وعنوانها (عروس النيل) برقتها وعذوبتها ألفاظا ومعاني وصورا تشكيلية مبتكرة، فهى تستهل بالسطور الآتية:
(عَرُوسُ النِّيلِ فِي جِلْبَابِهَا الفِضِّيْ
وَفِي الإِبْطِ الفَتَى الجِنِّيْ
يَزْرَعَ حِلْمَهُ فِي النْيلِ
مَوْجُ الْنِيلِ تُغْرِيهِ عَرُوسٌ فِي تَأَلُّقِهَا).. وأيضا تقول:
(فإن يَغْفُ عَرُوسِ الْحِلْمِ لا يألو
وإن يَقْعُدْ لِحَاسُوبٍ
يُوَاصِلْهَا
وإنْ رَكِبَ الْفَضَاءَ كَانَتْ
مُضِيفَتَه
وَكُلُّ نِسَاءِ دِيرَتِهِ)
 وتختتم هذا النص بالسطور الآتية:
(وَيَفْعَلُ مَا يُؤَهِّلُهُ
يَكُونَ لِقَلْبِهَا رُبَّانَ
 حَرَّكَ مَرْكِبَ الذِّكْرَى
تِجَاهَ العَالَمِ الآخَرْ
وَإِنْ ضَاعَ اللِّقَاءُ سُدًى
بِرِحْلَةِ حُلْمِهِ عَفْوا
يَعُودُ يُعَانِقُ الأَحْلامَ يَنْتَظِرُ
وَيَنْتَظِرُ)
ومن ثم فإن هذه القصيدة تعد من عرائس الديوان لولا بضعة هفوات مثل استعمال كلمة حصول النثرية المتهافتة، وكلمة السماوات دون الألف الأولى خضوعا للوزن.
وعلى منوال قصيدة المتصوفة رابعة العدوية في مقطوعتها التي تستهلها بالبيت الآتي:
 أحبك حبين حب الهوى.. وحب لأنك أهل لذاكا) تنسج نادية كيلاني قصيدتها الغزلية: (أحبك حبين يا عاشقي.. تلون روحي وترسم ذاتي) وحبذا لو استعملت الشاعرة عبارة ( يا عاشقا) بعبارة (يا عاشقي) فالأولى هى الأصح لغويا طالما جاء بعدها فعل مضارع.
ومن أرق النصوص قصيدة (مواسم للغياب) التي تقول فيها الشاعرة:
(أيغافل النوار يا غصن القصيد؟ أيشاغل النساك في أقصى المدى؟ أوَ للغياب مواسم؟ هل للحضور مراسم؟ ومتى لموسمه الإياب؟
وقد أبدعت شاعرتنا في ترديدها كلمة مواسم لتأكيد الدلالة، وفي تراسل اللحن واستعمال الحروف الهجائية (لابد للقلب العنيد.. يبدل الصمت العتيد.. ليطبب الجرح الذي لا منتهى إلا له.. كي تستقيم حروفنا.. حرف يغذو السير في نتف الغرام المحترق..  في زورق الأيام حيث مضى الهوى)
 وتنتهى القصيدة بهذا المقطع البديع :
 (أتخيل القلب الحنون.. يمد ورد حنينه ويرتب الشجن الذي من حمله مال العنق..  ثم ارتجافي كالطيوف مسافرة.. لبراءتي من ذنبه سكن الدوي)
إن شاعرتنا تنهل من التراث الشعري فمثل توظيفها قصيدة رابعة العدوية كتبت قصيدة "وتلفت القلب وهى عبارة ختم بها الشاعر العباسي الشريف الرضي مقطوعته الطللية التي تعد من عيون الشعر العربي ونصها:
وَلَقَد مَرَرتُ عَلى دِيارِهِمُ          وَطُلولُها بِيَدِ البِلى نَهبُ
فَوَقَفتُ حَتّى ضَجَّ مِن لَغَبٍ        نِضوي وَلَجَّ بَعُذَّلي الرَكبُ
وَتَلَفَّتَت عَيني فَمُذ خَفِيَت       عَنها الطُلولُ تَلَفَّتَ القَلبُ

كما تنهل شاعرتنا من الأدب الأجنبي فقد ضم ديوانها قصيدة عن فينوس ربة الجمال الاغريقية.
ويتبدى الحس الوطني ساطعا في قصيدة "حيوا الشباب" التي تستشف فيها روح ثورة 25 يناير وأنفاس شبابها. ولم تسلم هذه القصيدة من الخطابية والتقريرية ولكن صدق العاطفة التى أوحت بهذه القصيدة تغفر لها تلك السمة.
 كما يبدو الحس القومي في قصيدة استلهمت فيها الشاعرة مأساة الشعب العراقي الذي نكب بدكتاتورية صدام ثم غزو الأمريكيين.
ونختم هذه الاطلالة العابرة باشارة بقصيدة (قال عبد الله) وهو عبد الله ابن الزبير الذي قتله وصلبه الأمويون حين طالب بأحقيته بالخلافة كما فعلوا مع الحسين (رضى الله عنه) وقد ضمَّنت الشاعرة تلك القصيدة التي تعد رائعة الديوان كلمات أسماء ذات النطاقين وهى ابنة أبي بكر الصديق حين بلغها قتل ابنها والتمثيل بجثته فقالت: إن الشاة لا يضرها سلخها بعد ذبحها:
فعلى لسان عبد الله تقول:
( قَالَ عَبْدُ اللهِ يَا أُمَّاهُ
كَيْفَ المَوْجَةُ الظَّلْمَاءُ تُرْدِينِي
فَأَلْقَى اللهَ  مَقْتُولاً)
وعلى لسان أسماء تستطرد الشاعرة:
(تَجلد يَا مُنَي عَيْنِي هُنَا أَمْرٌ تُلاقِيهِ
مِنَ الرَّحْمَنِ خُذْ مِنِّي مَعَانِيه
تُصَابُ الشَّاةُ  سِكِّينًا ولم تُذْنِبْ
وَلا تَبْغِي سِوَى مَرْضَاةِ رَامِيهَا
وَسَلْخُ الشَّاةِ بَعْدَ الذَّبْحِ لا يُؤْذِي
وَصَلْبُ الْعُودِ عَنْدَ الْبَابِ قربانٌ إِلَى الرَّبِّ
فَيَا مَرْحَى بِهِ صَلْبًا)
تحية تقدير للشاعرة نادية كيلاني التي أثرت مكتبة الشعر العربي الحديث بديوانها المتميز شكلا ومضمونا في عديد من نصوصه التي تقع من نفس المتلقي مواقع الماء من ذي الغلة الصادي كما يقول شاعر تراثي، ولا شك أن شاعرتنا سوف تستمر في تجويد أدواتها الفنية حتى يدرج اسمها في قائمة الشاعرات الكبيرات في ديوان العرب الحديث.

الاثنين، 1 نوفمبر 2010

شاعرة مبدعة متألقة في ديوان "بين الغيوم والقمر": دراسة وتقديم الشاعر العربي السوري: عدنان برازي.



شاعرة مبدعة متألقة
في ديوان "بين الغيوم والقمر"

دراسة وتقديم الشاعر العربي السوري: عدنان برازي.
أولا أرحب بديوان شعر جديد لا اسميه شعرا أنثويا رغم أن الشاعرة أنثى، وأنا أجل الأنثى، لأنها نبع الحنان في زمن القسوة، ولأنها حصن الأمان في عصر التوحش والعدوان.. ولكنني أرحب بها في عالم الإبداع الشعري، وهي شاعرة مرموقة ومُجيدة وذات نفس طويل ومتعدد السبل والاتجاهات، يؤكد لك ذلك من مقدمته حيث خصته بفصول أربعة بعد الإهداء إلى مواسم –وهنا تنفرد الشاعرة بذلك- فمواسمها للدار والقلب والعقيدة –الدين- وللهموم.. وما أكثر الهموم في هذا العصر.
وكذلك لابد لي أن أقف متأملا عنوان الديوان الغريب، ولا غريب إلا الشيطان، والمتأرجح بين القمر المضيء الجميل والذي نشبهه نحن الشعراء بالجمال الأنثوي.. وبين الغيوم التي تحجب نوره عنا والتي نشبهها بالجفاء والقلوب السوداء بدنيا الحب والحياة لأن الحياة هي حب.. والله محبة.
وفعلا إن حياتنا تدور وتتنقل بين القمر المحبوب وبين الغيوم السوداء المكروهة ولكن يبقى الأمل الذي يقوي إرادتنا ويمنحنا قوة نستمدها من إيماننا وثقتنا بأنفسنا في الصراع المستمر للوصول إلى بر الآمان وواحة الحب والحنان.
ولندخل في هذا الديوان الأثير، ونقلب صفحاته الزاخرة والوافرة بنبض قصائد جميلة هي صدى لنبضات قلب صادقة، بدءا من قصيدة "رسول الحق" التي جعلت قافيتها الهاء الساكنة بعد الفاء المتحركة وهي صعبة ولكنها جميلة تأتي من شاعرة تمتلك مفردات كثيرة ولها معجم شعري جيد، تقول في مطلعها:
رَسُولُ الحَقِّ بِالْبُشْرَى أَتَانَا = يُعِزُّ الْـخَلْقَ بِالإِسْلامِ زُلْفَهْ
وَيُهْدِي مِنْ عَطَاءِ اللهِ نُورًا = يَزِيدُ العَبْدَ إِحْسَانًا وَأُلْفَهْ
وهي قصيدة رائعة استوقفني فيها ذكر السيدة عائشة(رضي الله عنها) بعد أن برأها الله سبحانه وتعالى من حادثة الافك فقالت:
وَيَسْتَبِقُ (الْبَرِيئَةَ) فِي فَضَــاءٍ = وَيَرْضَى بِالْعِتَابِ وَفيهِ رَأْفَةْ
وشاعرتنا المبدعة والمؤمنة، صراعها مستمر بين إغواء القلب وصمود العقل والإيمان لتبقى راضية وأيضا مرضية عن نفسها وسلوكها في هذه الحياة الدنيا حيث نراها تقول:
تَمَادَى الْقَلْبُ يُغْوِينِي = فَأعْصِيهِ.. يُمَنِّينِي
أُرَاوِغُـهُ وَأُلْجِمُـهُ   =   لَعَلَّ اللهَ  يَهْدِينِـي
غِنَاءُ الطَّيْرِ يَأْخُذُنِي  =  وَزَيْغُ العَقْلِ يُرْدِينِي
سَلامُ النَّفْسِ أَنْشُدُهُ = فِرَارُ النَّفْسِ يَشْجِينِي
أُغَامِرُ فِي مُخَيِّلَتِي = ويأتي الصُّبْحُ يُنْسِينِي
وتنهي شاعرتنا المبدعة بدعاء حار وابتهال للرب الكريم قائلة:
فَيَا رَبِّي تَوَلَّ فؤا = دِيَ المَخْلُوقَ مِنْ طِينِ
وَلاَ لِلنَّفْسِ تَتْرُكْهُ =  فَـتُغْــرِيهِ وَيُغْرِينِي
وشاعرتنا تعيش كأي مواطنة واعية، محبة لوطنها ولشعبها، وتأمل دائما بشبابها في قدراتهم على الانتفاضة والتغيير في ثورة تنحو نحو الحرية والديموقراطية، والعدالة الاجتماعية، فنراها تقول:
وَمِنْ ثَوْرَةِ الْخَضْرَاءِ تَصْحُو الضَّمَائِرُ = وَمِصْرُ تُغِذُّ السَّيْـرَ وَهْيَ تُبَادِرُ
فَبُورِكَ شَعْبٌ عَزَّ نَفْسًا وَصَانَهَا = أَبَانَتْ بِأَنَّ الصَّبْرَ وَعْيٌ مُثَابِرُ
وتتابع القصيدة العصماء بقولها:
فَحيُّوا شَبَابَ الثَّغرِ، عَاشُوا لِمِصْرِنَا = فَهُمْ فِي رِبَاطٍ جَلَّلَتْهُ الْمَآثِرُ
شَبَابٌ بِطُهْرِ الطُّهْرِ هَبُّوا لِنَجْدَةٍ = أَجَابُوا نِدَاءَ  الْحَقِّ  لبَّى  يُجَاهِرُ
ويلفت النظر بأن شاعرتنا لا تتعصب للإسلام أو للعروبة كل واحدة منهما مستقلة بل تمزج بينهما.. ولذا تؤكد الانتماء بين العروبة والإسلام ودمج الاثنين معا وبذا تقف في وجه أي محاولة للتفريق المدسوس، فنراها تكتب عن بغداد المحتلة فتقول:
بَغْدَادُ يَا أَرْضَ الخِلافَةِ وَالبُطُولَةِ وَالكَرَمْ
طَمِعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ عَصِيٌّ وَاحْتَدَمْ
===
بَغْدَادُ نَجْمٌ فِي العُلا مُتَصَدِّرٌ أَحْلَى نَغَمْ
تَارِيخُهَا هَارُونُ عَصْرٍ أَوْ صَلاحُ الدِّينِ تَمّْ
حَمَلَتْ رِيَاحُ دَوِيِّهَا؛ أَوَّاهُ أَيْنَ المُعْتَصِمْ.؟!
وكانت من الشاعرة لفتة كريمة أصابت هدفها.. لأن صراخنا وآهاتنا لا تجد أذنا صاغية، ولا قلبا حيا من حكام العرب والمسلمين.. فتبقى الآهات تحرقنا من قلب موجع.. لعل الله يبعث من صفوفنا قائدا فذا له قلب وضمير ونخوة المعتصم.
ونبقى في حرقة واقعنا المزري العربي والإسلامي، حيث تتابع شاعرتنا الكريمة تجوالها في وطننا العربي الإسلامي وتصل إلى القدس مسرى النبوة وثاني الحرمين بعد أولى القبلتين فتقول:
يُنَادي الْقُدْسُ مُصْطَبِرًا = عُيُونًا عَاقِدًا أمْرَا
هُنَا الزَّيْتُونُ مُنْتَهَبٌ = وشَرُّ النَّاسِ قَدْ فَجَرَا
إلى أن تقول:
فَقُومُوا إخوتي في القُدْ = سِ  هُبُّوا تَصْنَعُوا النَّصْرَا
وننتقل مع مواسم القوم فتبادرنا بقصيدة "عطرها" بروح مرحة مداعبة حيث تقول:
أُخْتَاهُ عُودِي وَانْظُرِي مَا أَرْوَعَهْ = خَلَّفْتِ عِطْرًا فِي أُنُوفٍ مُشْرَعَةْ
لُمِّي عُطُورَكِ وَانْثَنِي مِنْ دَرْبِنَا = يَكْفِي الَّذِي أَحْدَثْتِهِ مِنْ زَوْبَعَةْ
يَتَشَاجَرُ الأَخَوَانِ حَوْلَكِ وَالشَّذَا = يَتَصَوَّرَانِكِ بِالْغَرَامِ مُشَيِّعَةْ
هَذَا يَقُولُ لَقَدْ أَتَتْ لِمَوَدَّتِي = وَأَخُوهُ يَأْبَى أَنْ يَرَاكِ مُوَدِّعَةْ
وتنتقل شاعرتنا في النجوى للعشاق وبروح رومانسية غير خافية حيث تقول في قصيدة عاشقان:
عَلَى فَرْعِ المَحَبَّةِ رَفَّ طَيْرٌ = وَلَحْنُ الحُبِّ يَعْزِفُهُ التَّمَاهِي
تَحَرَّكَ قَلْبُ حِبَّيْنِ فَذَابَا = وَبَوْحُ الحُبِّ أَسْرَفَ فِي التَّبَاهِي
وتتابع شاعرتنا قصيدة عاشقان لتنهيها ببيتين جميلين تقول فيهما:
إِذَا المَغْبُونُ أَخْطَأَ في مُرَادٍ = يَثُوبُ لِرُشْدِهِ.. عَفْوًا إِلَهِي
وَمَنْ يَجِدِ السَّعَادَةَ في سِوَاهُ = أَضَاعَ العُمْرَ في غَمَرَاتِ سَاهِ
ولم تنسى شاعرتنا أنها شاعرة كرمها الله بموهبة الشعر وبرهافة المشاعر والأحاسيس وبمخزون حب للناس –كل الناس- فتشكر ربها لهذا العطاء الخير وتذكر الشعراء بذلك حيث تقول:
يا شَاعِرًا مَا أَجْمَلَكْ = أعْطَاكَ رَبِّي منْزِلَكْ
هَذَا إِلَهُكَ مُلْهِمٌ = وَعَلَى كَثِيرٍ فَضَّلَكْ
فَاحْمِلْ أَمَانَةَ وَاهِبٍ = وَادْفَعْ بِهَا مَا أَثْقَلَكْ
جَاهِدْ بِهَا أَعْدَاءَنَا = نَازِلْ بِهَا مَنْ نَازَلَكْ
وَاصْنَعْ بِهَا حُلْمًا طَمُو = حًا يَسْتَقِيمُ عَلَى الْفَلَكْ
وَاسْتَرْجِعِ الحُلْمَ الَّذِي = طَالَ المَدَى وَاسْتَنْزَلَكْ
ولو تابعنا الكتابة عن قصائد الديوان المتنوعة بين مواسم الشعر الذي تحركت في ربوعه الشاعرة لاحتاج لوقت طويل.. وهذا ليس وقته رغم أنني أخذت وقتا طويلا لأنني فوجئت بقدرة الشاعرة الإبداعية وتنوع أغراضها الشعرية وتجلياتها، لذا لابد لي من التوقف مرغما لأختم هذه الرؤية لشاعرة كبيرة مبدعة متمكنة من أدواتها الشعرية ومن مخزون مفرداتها وضخامة قاموسها الشعري وثقافتها المتعددة.. وقبل هذا التوقف أعود معكم إلى بداية الرؤية والتعليق على اسم الديوان الدائري الغريب بين الغيوم والقمر، النور المحبب والغيوم السوداء ذو الوجه الكئيب حيث تحت هذا العنوان جعلت القصيدة باسلوب الحوار والأقوال وأقتطف منها:
قَالَ: الْقَمَرُ الأَحْلَى فِي عَيْنِي
وَفَتَاةٌ أَرْوَعُ مِنْ ضَوْءٍ
قَالَتْ: أَنْتَ الرَّجُلُ الأَبْهَى
مَا أَرْوَعَهُ نَجْمَا !!
قَالَ: وَكَيْفَ يُجَمِّعُنَا عُشٌّ وَالْغِرْبَانُ تُحَوِّمْ؟!
قَالَتْ: نَنْصِبُ فَخًّا
وتتابع شاعرتنا القصيدة المتفردة والرائعة بحيث تقول:
قَالَتْ: فَلْنَنْسَ الْحُزْنَ قَلِيلاً..
نَتَغَازَلُ
يَا ذَوْبَ السُّكَّرْ
- السُّكَّرُ فِي حَلْقِي مُرّ
وَمَرَارُ السُّكَّرِ حَنْظَلْ
إنها قصيدة حكائية ممتعة، بأسلوب رشيق كذوب السكر، وفق الله شاعرتنا المبدعة التي متعتنا بهذا الديوان الجميل.. ومزيدا من هذا العطاء الجميل والإبداع الراقي متمنيا لها التوفيق والنجاح والتألق أكثر وأكثر.